الطب > مقالات طبية

متلازمة الاحتراق النفسي (Burnout syndrome) عند أطباء سورية المقيمين؛ هل تقرع نواقيس الخطر؟

متلازمة الاحتراق النفسي أو (Burnout syndrome)؛ هي متلازمة نفسيّة المنشأ، تتمثّل بصفتين رئيسيتين:

الأولى: الإرهاق العاطفي، والثانية: عدم الاكتراث بمعاناة الآخرين ومشكلاتهم، بل والتهكّم بها. ترتبط هذه الظاهرة غالباً بطبيعة العمل ونوعه، وبالأخصّ العمل الذي يتضمن التعامل مع مشكلات أشخاصٍ آخرين ومعاناتهم. وفي مقالنا اليوم سنناقش هذه الظاهرة لدى الأطباء في مختلف التخصّصات الطّبيّة.

كانت العالمة النفسيّة الأمريكيّة (كريستين ماسلاش) من أوائل من عرَّف هذه المتلازمة؛ فقد حدّدت المعايير الثلاثة الأساسيّة لها، وتعاونت مع البروفيسورة (سوزان جاكسون) في عام 1981م لوضع مقياس ماسلاش للاحتراق النفسي (Maslach Burnout Inventory)؛ وهو الذي يهدف إلى قياس وجود متلازمة الاحتراق النفسي وتقييمها حسب معاييرها الثلاثة الأساسيّة؛ وهي: (الإرهاق العاطفي، وتبدّد الشّخصيّة، ونقص التقدير للإنجازات الشخصيّة) وسنتحدّث عنها بالتفصيل.

المعايير الأساسية لمتلازمة الاحتراق النفسي:

أولاً: الإرهاق العاطفي: ويتمثّل بالنّقص الشّديد في الطاقة الجسديّة والعاطفيّة لدى الطبيب، وتغلب على الشخص في هذه المرحلة الفكرة الآتية: ''لست واثقاً كم من الوقت أستطيع المتابعة بهذا العمل".  

ثانياً: تبدّد الشّخصيّة: ويتمثّل بعدم الاكتراث والسّخرية من المرضى واحتياجاتهم، والشعور الدائم بالرّغبة في التنفيس عن المشاعر المتعلقة بالعمل أو المرضى، وتعرف هذه الحالة أيضاً بـ (فتور التعاطف)؛ إذ يكون الطبيب غير قادرٍ على التفاعل العاطفي مع المرضى والأشخاص المحيطين به ضمن بيئة العمل. 

ثالثاً: نقص تقدير الإنجازات الشّخصيّة:  فيبدأ الطّبيب بالشّكّ في أهميّة عمله ودوره وفعاليته في أداء هذا العمل، ويخشى ارتكاب الأخطاء. 

ولكن؛ ما مدى انتشار هذه المتلازمة؟

- حسب إحصائيّة أُجريت في الولايات المتّحدّة الأمريكيّة عام 2013 م؛ قُدِّرت نسبة متلازمة الاحتراق النّفسي عند الأطباء بـ (39.8%). وعند تكرار الإحصائيّة نفسها عام 2015 م؛ نَجد ارتفاعاً في النّسبة؛ إذ وصل معدّل انتشار المتلازمة بين الأطباء إلى (46%)، واحتلّ كلٌّ من تخصّص العناية الحثيثة وتخصّص الطوارئ صدارة الترتيب في معدّل انتشار هذه المتلازمة لدى مختصِّيه. 

 أما في الوطن العربي وخاصّةً سورية؛ أُجريت دراسةٌ حديثةٌ على (3350) طبيبٍ مقيمٍ من الجنسين في ثماني محافظاتٍ سوريّةٍ مختلفة ضمن تخصّصاتٍ متعدّدة، تبيّنَ فيها أنّ (93.75%) من هؤلاء الأطبّاء يعاني مستوىً مرتفعاً في أحد المعايير الثلاثة المحدِّدة للمتلازمة على الأقل، وأنّ (19.3%) من الأطبّاء المقيمين يعاني مستوىً مرتفعاً في المعايير الثلاثة معاً.

وقد نُشِرت هذه الدراسة في تاريخ (10 كانون الأول/ديسمبر - December - 2019) في المجلة العلميّة المحكمة (Journal of Occupational Medicine and Toxicology). وقد اعتمدت هذه الدراسة في تقييمها لمتلازمة الاحتراق النّفسي على نسخةٍ عربيةٍ موثّقةٍ من (Maslach Burnout Inventory)، ووجدت الدراسة علاقةً مهمة بين الجنس والمتلازمة بعكس الدراسات الأخرى؛ إذ إنّ الأطبّاء الذكور يعانون مستوياتٍ أعلى من الإرهاق العاطفيّ، وتبدّد الشّخصيّة، ومستوياتٍ أقلّ من نقص التقدير للإنجازات الشّخصيّة مقارنةً بالطبيبات الإناث، ومن المثير للاهتمام وجود علاقةٍ مهمة بين متلازمة الاحتراق النفسي وبرنامج الإقامة الذي ينتمي له الطبيب، فبحسب الدراسة ذاتها وُجِد أنّ الأطباء الملتحقين ببرنامج الإقامة التابع لوزارة الدفاع يعانون المستويات الأعلى من الإرهاق العاطفي بنسبة (89.40%)، وتبدّد الشخصية بنسبة (63.10%) مقارنةّ ببرامج الإقامة الأخرى (وزارة التعليم العالي، ووزارة الصحة). في حين لم تَجد هذه الدراسة أيّة علاقةٍ بين نوع التخصّص ومتلازمة الاحتراق النّفسي، على الرغم من أن مقيمي الجراحة العامّة وطبّ الطوارئ كان لديهم النسبة الأعلى من الإرهاق العاطفي وهي (89%). 

الأسباب المؤدّية إلى متلازمة الاحتراق النّفسي:

هناك أربعة عوامل رئيسّة لها علاقةٌ مباشرةٌ بنشوء هذه الظاهرة عند الأطباء؛ وهي: 

1- عدم القدرة على التّحكّم بظروف العمل، واتخاذ القرار.

2- ضغط وقت العمل؛ إذ يشعر الأطبّاء أنهم يُقيّمون فقط حسب كميّة إنتاجيتهم. 

3- الفوضويّة وعدم الفعاليّة ضمن بيئة العمل وهي التي قد تُجبر الأطباء على تنفيذ مَهامٍ مملةٍ وروتينية.

4- عدم توافق الرُّؤى بين الأطبّاء والإداريين، واختلاف القيم والمبادئ والأهداف والحوافز، إضافةً إلى ما سبق يؤدي ضغطُ العمل دوراً مهماً في نشوء المتلازمة، فساعات العمل الطويلة، وكثرة المناوبات، وقلة النوم، والتعامل مع حالات الوفاة، والتنافسية في العمل، وقلة الدعم من الأطباء المشرفين، جميعها أمور من شأنها أن تؤدي إلى ظهور المتلازمة وتطوّرها. 

مراحل نشوء متلازمة الاحتراق النفسي وتطورها:

يمرُّ نشوء ظاهرة الاحتراق النّفسي بمراحلَ ومستوياتٍ مختلفة، يمكن تحديدها باثني عشر مستوىً كما يأتي:

1) الاندفاعيّة في إثبات الذات.

2) العمل بجد.

3) تجاهل الحاجات الشخصيّة.

4) تنحية الصراعات والمشكلات وتجاهلها.

5) مراجعة القيم والمبادئ. 

6) إنكار وجود المشكلات.

7) قلّة الاهتمام، والانفصال نفسياً عن الحياة.

8) تغيّرٌ واضحٌ في التّصرفات.

9) تبدّد الشّخصية.

10) الفراغ النّفسي.

11) الاكتئاب.

12) الاحتراق النفسي.

ولا تُعدّ هذه المستويات محدِّدة لجميع الحالات، وكذلك لا يشترط فيها ترتيبٌ مُعيّن أو توقيتٌ محدّد لحدوث كلّ مستوىً من المستويات أو استمراره.

أدوات  تشخيص متلازمة الاحتراق النفسي:

يُعدّ معيار (Maslach Burnout Inventory) الأداة الأكثر استعمالاً لتشخيص متلازمة الاحتراق النفسي، ويتألّف من مجموعةٍ من الأسئلة (22 سؤالاً)، تُقيّم وجود العناصر الثلاثة المحدِّدة للمتلازمة؛ إذ يُجاب عن كلّ سؤالٍ بمقياسٍ من 7 مستويات، تتراوح من "0" (أبداً) إلى "6" (يومياً)، ووفقاً لمعيار ماسلاش؛ فإنّ حصول الشّخص على نتيجةٍ عاليةٍ في كلٍّ من الإرهاق العاطفي، وتبدّد الشّخصيّة، إضافةً إلى نتيجةٍ منخفضةٍ في نقص التقدير للإنجازات الشّخصيّة، يُعبّر عن مستوىً مرتفعٍ من متلازمة الاحتراق النّفسي، كذلك قسّمت ماسلاش المتلازمة إلى ثلاثة مستويات (انظر جدول 1)، ومن الأدوات الأخرى المستعملة في تقييم المتلازمة: (Oldenburg Burnout Inventory) و(Copenhagen Burnout Inventory).

الآثار السّلبيّة لمتلازمة الاحتراق النّفسي:

تؤثّر متلازمة الاحتراق النّفسيّ سلبياً بالطبيب والمريض في آنٍ واحد؛ ومن هذه الآثار: 

- انخفاض رضا المريض وجودة الرّعاية الصحية.

- ازدياد معدّل سوء الممارسة، والأخطاء الطبية.

- ارتفاع معدّل تغيّر الأطبّاء العاملين في المراكز الصّحيّة والمستشفيات.

- تعاطي الطبيب الكحول والمخدّرات. 

- ارتفاع نسبة الإصابة بأمراض القلب، والسّكري من النّمط الثّاني، وارتفاع الكوليسترول.

- التّعب، والإرهاق، وآلام الرأس، والمفاصل، والعضلات. 

- قلّة النوم والاكتئاب.

- الموت المبكّر.

- الانتحار. 

الوقاية والعلاج:

يُعدّ العلاج المعرفي السّلوكي (Cognitive Behavioral Therapy) الطريقةَ الوحيدةَ المثبتةَ والأكثر فعالية في علاج متلازمة الاحتراق النّفسي، إضافةً إلى وسائلَ أخرى كالتدريب على التعامل مع ضغوط الحياة المختلفة، والعلاج الفيزيائي، والتمارين الرياضية، والموسيقا، وبعض الأدوية؛ ولكن وفق ما ذكرنا سابقاً فإنّ العلاج المعرفيّ السّلوكيّ هو الطريقة الوحيدة التي أثبتت فعاليتها في العلاج. 

أمّا الوقاية؛ فتُقسم تدخّلات الوقاية حسب هدفها إلى ثلاثة مستويات: الأوّل على المستوى الشخصي، والثّاني على مستوى المؤسسة أو مكان العمل، أما الثّالث فيجمع بين الاثنين.

وتشمل التدخلات الوقائيّة على المستوى الشّخصي: التدريب المعرفي السلوكي، وتحسين المهارات النّفسية الاجتماعيّة، وصناعة الموسيقا التّرفيهيّة، والتدريب على الاسترخاء؛ فقد تمكّنت هذه الوسائل من تحسين معايير المتلازمة الثلاثة.

أما على مستوى المؤسسة؛ فقد استطاع تدخّلٌ وحيدٌ تحسينَ معيارَين فقط من معايير المتلازمة وهو: التدريب المعرفي السلوكي، والدعم الاجتماعي.

وشملت التّدخّلات الوقائيّة -على مستوى الفرد والمؤسسة- الإشراف المباشر من المختصّين، والحد من العوامل التي تُؤثّر سلباَ في نفسيّة العامل، وتقييم جدول العمل وأوقاته، وتعزيز التّواصل والتّغذية الراجعة بين العمال والمشرفين.

نبذة عن المؤلفين:

د. محمد بهاء الدين الحفار:

طبيب أسنان متخرّج في جامعة دمشق عام ٢٠١٨م، حالياً ماجستير في قسم علم النّسج حول السنية. يعمل في مجال البحث العلمي منذ ٤ سنوات، وقد نشر حتى الآن ٨ مقالات في مجلات محكمة عالمية.

مؤسّس مشارك لفريق البحث العلمي الطّبّي (Weresearch)، وعضوٌ في فريق علم النفس، ومدرّب في فريق البحث العلمي في (شبكة الباحثون السوريون)، وحازَ عدّة جوائز في مجال البحث العلمي الطبي؛ أهمها: جائزةُ أفضل بحثٍ علميٍّ من معهد الصّحّة العالميّة في الجامعة الأمريكية ببيروت.

د. غدير عباس:

طبيبة متخرجة في جامعة دمشق عام ٢٠١٨، حالياً طبيبة مقيمة للاختصاص في الطّبّ النّفسي في مشفى المواساة الجامعي.

تعمل في عدّة مبادراتٍ تطوعيةٍ من بينها: (منظمة الباحثون السوريون) منذ عام ٢٠١٧م.

ساهمت في العديد من المحاضرات التعريفية والورشات التدريبية في مجال البحث العلمي، ولديها عدّة منشورات بحثيّة في مجلاتٍ عالمية محكمة. 

د. محمد علاء الدين الحفار:

طبيب متخرج في جامعة البعث عام ٢٠١٦م، بدأ تخصّصه الطّبّي في مجال أمراض القلب والأوعية الدموية في دمشق.

عمل في مجال إدارة المشاريع الطّبيّة في لبنان إضافةً إلى عمله طبيباً مع العديد من المنظمات الدولية، وقد ساهم في نشر العديد من الأبحاث في مجالي الداء السّكري والصّحّة النّفسية، وهو مقيم حالياً في بريطانيا.

عضو في فريقَي الطب وعلم النفس في شبكة (الباحثون السوريون).

المصادر:

1-هنا

2-هنا

3-هنا

4-هنا

5-هنا

6-هنا

7-هنا

8-هنا

9-هنا