كتاب > الكتب الأدبية والفكرية

مراجعة كتاب (العالم كما أراه): العالم تحت مجهر آينشتاين

يُعدُّ  العالِم الألماني المَوْلد، والسويسري/الأمريكي الجنسية (ألبرت آينشتاين) أبرز علماء القرن العشرين؛ إذ يُشتهر بأنَّه أبو النسبية الخاصة والعامة، والتي حصل بموجبها على تقدير العالم أجمع، وجائزة نوبل في الفيزياء عام 1921، ولكنَّ التقدُّم الفيزيائي العالمي لم يقتصر على مجهودات (آينشتاين) وحده، فجائزة نوبل بفروعها العديدة لم تتوقف عن منح أوسمتها لجهابذة العلم بصنوفه كافةً، فلِمَ بقي (آينشتاين) وحده مثارَ الجدل والنقاش في أروقة العلم والصحافة على السواء! ولِمَ لا تزال حياته وأفكاره على الرغم من مرور أكثر من نصف قرنٍ على رحيله (تُوفي عام 1955، في نيوجيرسي/ الولايات المتحدة) تستفز الباحثين للكتابة عنه وله مدحًا وإطراءً أو ملامةً ومعاتبة؟!

في هذا الكتاب الذي نشره عام 1949 نستطلع شيئًا من أفكار العالم (آينشتاين) المتفرِّدة في مواضيع متفرقة؛ كالاقتصاد والتسليح والمرأة والحرب والصهيونية العالمية.

ويضم كتاب (العالم كما أراه) مجموعةَ مقالات وخطب وتصريحات نشرها (ألبرت آينشتاين) في الصحف والمجلات أو ألقاها في المحافل السياسية والمؤتمرات الاقتصادية والطلابية التي كان يُدعى إليها كلَّ حين، وهي تعود إلى أزمنة مختلفة من حياة العالِم الكبير، وتتراوح بين عام 1922 وحتى قُبيل وفاته، وما يربط هذه المقالات على الرغم من تنوُّعها وحدةُ الشخصية التي تبدو جليةً خلف هذه التصريحات جميعها.

فالفصل الأول من الكتاب بعنوان (في معنى الوجود)، ويطرح (آينشتاين) في هذا الفصل أسئلةً وجودية عميقة يجيب عن بعضها ويترك بعضها الآخر مُعلَّقًا دون إجابة :

"ما معنى وجودنا، وما معنى وجود الكائنات الحية جميعها عامةً؟"

يرى (آينشتاين) أنَّ مثل هذه الأسئلة بحاجة إلى عواطف دينية، وأنَّ الإنسان البائس وحده يرى أنَّ حياته لا معنى لها، ويصرِّح بعدم إيمانه بالحرية المطلقة للإنسان:

"لا أؤمن أبدًا بالمعنى الفلسفي للكلمة، بحرية الإنسان، فكلُّ واحدٍ منَّا يتصرَّف ليس فقط مدفوعًا بضغط خارجي، ولكن من خلال ضرورةٍ داخلية أيضًا."

وفي هذا الفصل، نسبر أغوار شخصية (آينشتاين) ونظرتِه إلى الحياة، فنكتشف أنَّه ينزع إلى الوحدة والعزلة دومًا، ويشعر بعدم الحاجة إلى القرب من الآخرين والتجمعات البشرية، ويؤكد على أنَّه لم يشعر  بأيِّ انتماء عاطفي إلى وطن أو دولة أو أرض مطلقًا، بما في ذلك وطنه.

أما الفصلين الثاني والثالث من الكتاب فجاءا بعنوان (السياسة والسلم)، وفيهما نكتشف كُرْه (آينشتاين) للأنظمة العسكرية برمَّتها، فهو ينبذ الحروب ويصرِّح بحقده على الجماهير المُسالمة التي ساهمت بوصول الأنظمة العسكرية إلى الحكم.

"إنَّ الخدمة العسكرية تبدو لي الظاهرة المرضية الأكثر عارًا وخلوًّا من الشرف الشخصي الذي تعاني منه بشريَّتنا الحضارية اليوم."

بالإضافة إلى أنَّه يرى أنَّ رجال السياسة والدين هم أكثر من أساؤوا إلى البشرية، في حين أنَّ أساتذة الفن والعلماء ساهموا في نشر النبل والمعاني السامية النبيلة بين الناس، ويرى أنَّ القيمة الحقيقية للإنسان تتحدَّد في أيِّ مقياس وأيِّ معنى يمكن له أن يحرر نفسه من (الأنا).

وفي فقرة "التعليم والمعلِّمون"، يقرُّ (آينشتاين) بأنَّ العالَم المتحضِّر يعتمد على طرائق تعليم متعدِّدة وخاصةً في المدارس الأمريكية، ولكن؛ على الرغم من ذلك فليس هناك تربية عقلية بقدر ما هي تلقينية، ويشير بإعجاب إلى الجيل الجديد من الأطفال اليابانيين الذين "سيغزون العالم بالعلم والحضارة" على حدِّ تعبيره.

ولا يفوت العالِم الجليل في سلسلة خطاباته توضيحَ نظرته إلى الدين وموقفه منه، ويحاول إقناع قارئه أنَّ الدين ما هو إلا وليد الخوف الذي عاشه الإنسان البدائي؛ خوفه من الجوع والمرض والموت والحيوانات الضارية، وهكذا ظهرت كما أسماها (ديانة الرعب) وسيطًا بين المخلوقات المخيفة والناس، ثمَّ أشار إلى أنَّ هذه الديانة بدأت تنتقل في الكتب المقدَّسة من كونها (ديانة رعب) إلى (ديانة أخلاقية) وهي نتيجة حتمية في الحياة الاجتماعية.

ويمجِّد ما أسماه (ديانة البحث العلمي) التي عدَّها لازمةً منطقية للحياة وبها يسمو الإنسان على عبودية رغباته الإنسانية.

"في عصرنا المُكرَّس عامةً للمادية يظل العلماء الجادون هم أكثر البشر دينًا."

ويبدو أنَّ (آينشتاين) لا يكفُّ عن ذكر موقفه من التسليح في كل خطابٍ يلقيه، ولكنَّه هذه المرة يقدِّم موقفًا مفاجئًا وغريبًا عن التسليح، ففي حين أنَّه يرفض أشكال تملُّك السلاح كافةً، نجده يدعو إلى التسامح مع تسليح عمال الأجرة وحدهم دون غيرهم!!.

ويؤكد -دومًا- أنَّ سعي الدول تجاه التسلُّح يعني التأكيد والتحضير ليس للسلام، بل للحرب، وأنَّ نَزْع السلاح لايجب أن يكون نزعًا تدريجيًّا، فإما أن يُنزَع دفعةً واحدة أو فلا.

"طالما أنَّه سيكون هناك سلاح، فأيُّ شكلٍ من أشكال الصراع مهما كان خفيفًا فإنَّه قد يؤدي إلى الحرب، إنَّ السلم إذا لم يكافح بفعالية وحزم أمام تسلُّح الدول سيظل عاجزًا أمام آلة الحرب المدمِّرة تلك."

و لم تخلُ خطابات (آينشتاين) من بعض الفكاهة المجبولة بشيء من الجدية، فقد قال عن النساء والحرب: "أعتقد أنَّه علينا في الحرب القادمة إرسال النساء الوطنيات إلى الجبهة بدل الرجال"، وأمام  تعجُّب مستمعي الخطاب أعلن -لاحقًا- أنَّه مجرد تصريح بقصد المزاح والظرافة، "وإلا لِمَ لا نستخدم شعورًا بطوليًّا كهذا للجنس اللطيف بدل الهجوم على مدنيِّين دون دفاع."

وفي فقرة (تأملات في الأزمة الاقتصادية العالمية) يستعرض العالِم الكبير أسباب تلك الأزمة التي عصفت بما يُسمى بالعالم المتقدِّم -كان ذلك منذ حوالي قرنٍ مضى- ثمَّ يستقر رأيه على سببٍ واحد ومباشر لتلك الأزمة:

"السبب الحقيقي للبؤس الحالي هو التقدُّم التكنولوجي الذي أدَّى إلى فصل قسمٍ كبير من العمال الذين وجدوا أنفسهم دون مورد."

ثمَّ يقدِّم حلًّا لتلك الأزمة:

"لو نجحنا بطريقة أو بأخرى في منع القوة الشرائية للجماهير من الهبوط تحت أقل مستوى لها سيصبح التبادل الاقتصادي بحجمه وطبيعته التي نشهدها حاليًّا مستحيلًا."

إنَّ أكثر ما يثير الإعجاب والاحترام لشخصية (آينشتاين) هو دفاعه عن حرية السود أينما كانوا والأمريكيين خاصةً، ويزيد احترامنا له عندما نعرف أنَّ مقاله عنهم نُشِر في أميركا في ثلاثينيات القرن الماضي؛ أي عندما كان السود الأمريكيون يرزحون تحت العبودية ويخضعون لسلطة السيد الأبيض.

والقسم الرابع من الكتاب وهو بعنوان ( اليهودية) يكشف لنا وجهًا مختلفًا للعالِم الكبير، ففي حين استمات (آينشتاين) دفاعًا عن حرية السود، ولكنَّه تخاذل تجاه العرب وأرضهم المغتصبة وعدَّ فلسطين أرضًا بائرة لا شعب لها.

"إنَّ مؤسسة (إلى العمل يا فلسطين) تعمل بأيديها لتحويل الصحراء إلى مستعمرة مزدهرة ؛ إذ يكافحون سلميًّا في زراعة أرض بائرة لمصلحة الشعب اليهودي جميعه."

ثمَّ يشكر ( ألبرت آينشتاين) الصهيونيةَ العالمية التي ساعدت في تحقيق حلم نشوء ما يُسمى (دولة إسرائيل) وعدَّه عملًا عظيمًا تُوِّج بنجاح كبير، ولم يُشِر إشارةً مباشرة أو غير مباشرة إلى الشعب الفلسطيني الذي أقام حاضرةَ فلسطين منذ قرون ماضية وتجاهل ذكرهم تجاهلًا قاطعًا!

معلومات الكتاب:

آينشتاين، ألبرت. العالم كما أراه (2015). المترجم: فاروق الحميد. دمشق: دار التكوين. عدد الصفحات 147.