التاريخ وعلم الآثار > الحضارة السورية

تلُّ حلَف؛ الموقع السوري الذي مُنِحَ اسمه لحضارة إنسانية كاملة

يقع تل حلَف الأثري في منطقة الجزيرة السورية على بعد حوالي (3 كم) غربي بلدة رأس العين السورية على ضفاف نهر الخابور.

موقع تل حلف ضمن خارطة المشرق الأدنى القديم مع أهم المواقع خلال تلك الفترة.

ولعل أكثر ما يميز هذا الموقع الأثري هو اسمه الذي مُنح لحضارة إنسانية كاملة سميت "حضارة حلف" (Halaf Culture)، وازدهرت خلال العصر الحجري النحاسي في الفترة الممتدة ما بين 6000 و 5300 قبل الميلاد. يضم الموقع طبقتين أثريّتين إحداهما تعود لعصر حضارة حلَف آنفة الذكر، والثانية تعود للألف الأول قبل الميلاد وهي الفترة التي أصبح فيها موقع تل حلَف مركزاَ لمملكة "جوزانا" عاصمة مملكة "بيت بخياني" الآرامية؛ التي ازدهرت خلال الألف الأول قبل الميلاد، وكانت واحدة من مجموعة ممالك آرامية أخرى انتشرت في مناطق سورية الحالية وتبادلت المراسلات الدبلوماسية ودخلت في صراع مع الإمبراطورية الآشورية في أعالي بلاد مابين النهرين. بكل الأحوال فإننا سوف نتحدث في هذه المقالة بالتفصيل عن تاريخ مملكة "جوزانا".

الجدير بالذكر؛ أن هذا الاسم أطلقهُ علماء الآثار على هذه الحضارة التي تميزت بفخَّارها جيدِ الصنع، وذلك نسبة إلى موقع تل حلَف الذي اكتُشفت فيه هذه الفخاريات أوّل مرة خلال القرن المنصرم، أما الاسم الحقيقي القديم لهذه الحضارة غير معروف بالنسبة لنا نظراً لأن الإنسان لم يكن قد توصل بعد لاختراع الكتابة خلال تلك الفترة. 

تل حلَف الأثري خلال عصر حضارة حلَف:

ازدهرت حضارة حلَف خلال العصر الحجري النحاسي في الفترة المقدَّرة ما بين الألفين السادس والخامس قبل الميلاد[1]، وانتشرت على نطاق واسع في مناطق الفرات الأوسط وأعالي نهر دجلة من جنوب تركيا إلى شمال سورية والعراق. عاصرت حضارة حلف حضاراتٍ أخرى انتشرت في المنطقة مثل حضارة سامرّاء في العراق. أكثر ما يميز هذه الحضارة هو فخارها متقن الصنع والمنتشر على نطاق واسع في مواقع حضارة حلف.

نماذج فخَّار تل حلف الملون.

هنالك نوعان من فخَّار حلَف: أولهما الفخار الخشن غير المزخرف، والفخار الناعم والملون والمزخرف بكثافة. شُكِّل فخار حلف الملون باليد وكانت جدران الأواني في أحيان كثيرة قليلة السماكة، وتراوحت ألوانها من الأبيض الكريمي ومن الأحمر إلى البني، وزُخرِفت بألوانٍ فاتحة على خلفية أغمق. ومن أهم الأشكال التي صوِّرت على فخار حلف هي الأشكال الهندسية، كالخطوط المتشابكة والمتقاطعة وبعض الأشكال الحيوانية والنباتية مثل رأس الثور أو الزهرة رباعية البتْلات والتي تُسمى عادة بـ(صليب مالطا) (انظر الصورة السابقة). عَرفت هذه الحضارة أيضاً تطوراً على الصعيد المعماري؛ إذ تميزت بتشييد أبنيةٍ سُمِّيت باسم "تولوس" (Tholos)

وهي بيوت دائرية مقببة ولها مداخلُ مستطيلة، ويعتقد علماء الآثار أن لهذه البيوت صبغةً دينيةً، ولم تكن مجرد بيوت سكن نظراً لتصميمها الفريد ولطبيعة اللُّقى الأثرية التي وجدت بداخلها ولاسيما القبور. 

عُثر في تل حلف الأثري على جميع عناصر حضارة حلف، وعلى رأسها فخار حلف الملون، ففي موسم عام 1929 حُدِّدَ التعاقبُ الزمني لأنواع الفخار الملون المعثور عليه في تل حلف عن طريق حفر الآثاريين مِجسّاً شرقيَّ الموقع بالقرب من جدار المدينة القديمة، ومنذ ذلك الحين عُرف صانعو هذا النوع من الفخار بالحلَفيين.

جرّتان فخَّاريتان من عصر حلف، اكتُشفتا في تل حلف ومحفوظتان في متحف البرغامون في برلين.

وقد اكتشفت البعثة الألمانية العاملة في الموقع في عشرينات القرن الماضي هذه النماذج الفخارية المصنوعة بمهارة وقد صُنعت باليد واستخدم في صناعتها الطينُ الناعم الذي لُيِّستْ جدرانُه، واكتسب اللونَ البني الفاتح إلى المشمشي بعد شيِّه بتقنيات شيٍّ معقدة، وتنوعت أشكالها بين الطاسات، والكؤوس، والقُدور والصحون.

اكتُشف في موقع تل حلف أيضاً مجموعةٌ من تماثيل الآلهة الأم التي أدت دوراً مهمّا في عقائد مجتمعات حضارة حلف، إذ يعتقد علماء الآثار أن هذه التماثيلَ كانت تُعرض في حاويات الحصاد، وذلك من أجل أن تحفظ وتحمي الازدهار . جسدت التماثيل المشوية التي عثرت عليها البعثة الألمانية كالمعتاد مناطق الخصب عند المرأة إذ ظهرت منتفخة الثديين والفخذين وتضع يديها أسفل ثدييها، علاوة على تزيين أيديها وأفخاذها بخطوط برتقالية، أُهمِلَ تصويرُ الرأس لصالح إبراز مناطق الخصوبة. نُقلِتْ هذه التماثيل إلى برلين، وما زالت إلى يومنا هذا معروضة في (متحف البرغامون) في العاصمة الألمانية برلين.

ربة الخصْب الحلَفية.

آخيراً...وليس آخراً، فقد عثر عالم الآثار الألماني "يورك بيكر" في عام 2008 في موقع تل حلف على بقايا بيوت "تولوس" من النمط الحلفي. الجدير بالذكر أن بعثة ألمانية من (جامعة توبتغن - Tübingen Universität) ومتحف الآثار المشرقية القديمة كانت قد استأنفت العمل في موقع تل حلف منذ عام 2006 وحتى خريف عام 2010 قبل اندلاع الأحداث الجارية في البلاد.

تل حلَف الأثري خلال الفترتين الآرامية والآشورية:

سادت خلال الألف الأول قبل الميلاد في مناطق سورية الحالية مجموعة من الممالك الآرامية؛ ومن بينها (مملكة بخياني) وعاصمتها "جوزانا"، التي بفضل تنقيبات القرن الماضي اكتُشِفتْ في تل حلف بعد أن هُجر الموقع ثلاثة قرون ونصف القرن. كانت "جوزانا" عاصمةً مستقلة حكمتها مجموعة من الملوك الذين وصلت لنا أسماؤهم من المصادر المكتوبة الآرامية والآشورية على حد سواء، وهم: "بخياني" الذي حكم في مطلع القرن العاشر؛ "خديانو" الذي حكم في منتصف القرن العاشر؛ "كابرا بن خديانو" الذي حكم خلال أواخر القرن العاشر قبل الميلاد وله ينسب تشييد بعض الأوابد المعمارية؛ "أأبي سلمو" الذي حكم في مطلع القرن التاسع قبل الميلاد؛ "شمش نوري" الذي حكم خلال سنة 866 قبل الميلاد، وآخر الملوك الآراميين هو "هديسعي" والذي حكم خلال النصف الثاني من القرن التاسع قبل الميلاد.

هاجم الآشوريون الممالكَ الآرامية  مراتٍ عدة، وفرضوا الجزية عليها ومن ضمنها (مملكة بخياني)، إذ يذكر الملك الآشوري ("أدد نيراري" (911 - 831 قبل الميلاد) أنه عبر الخابور ودخل "جوزانا" عاصمة (بيت بخياني)، وأخذ الجزية من "أبي سلمو". ثار الآراميون مرات عديدة على الوجود الآشوري في مناطقهم، وحصلت العديد من الثورات في الممالك الآرامية، ولا سيما في (بيت بخياني) التي نعلم من المصادر الآشورية أنها احتُلَّتْ بالكامل وقُضِيَ على الوجود الآرامي فيها عام 808 قبل الميلاد. ترك الآشوريون حاكماَ آشورياَ في جوزانا يدعى "منوكي آشور"، وبذلك تحولت "جوزانا" إلى مقاطعة آشورية. الجدير بالذكر أن "منوكي آشور" تبادل المراسلات مع البلاط الآشوري، إذ عُثِر على قرابة مئة رَقيم مسماري في تل حلف تتحدث عن أحوال المقاطعة في ظل الحكم الآشوري.

كشفت التنقيباتُ التي أجراها الألماني "ماكس فون أوبنهايم / Max Von Oppenheim" في الفترة ما بين 1911- 1913 و 1927- 1929 عن بعض البقايا الآشورية في الموقع مثل معبد وبعض القبور والرُّقم المسمارية، إلا أن أهم اللُّقى وأعظمَها تعود لفترة المملكة الآرامية. يتألف الموقع من مستعمرة تبلغ مساحتها قرابة 70 هكتاراً محاطة من جهاتها الشرقية، الغربية، والجنوبية بتحصينات مربعة الشكل، وقد أحاطت ضفاف نهر الخابور بالجهة الشمالية من الموقع وعلى هذه الجهة الشمالية بالذات والمطلة على النهر كُشِفَ في موسم عام 1913 عن قلعة محاطة بدورها بتحصينات مربعة الشكل ضمت بداخلها مجموعةَ أوابدَ معماريةٍ، ومنها القصر المسمى بالقصر الشمالي الشرقي والمعبد – القصر  والمبنى الشمالي فضلاً عن بوابة سُمِّيتْ (بوابة العقرب) لوجود تمثال له رأس بشر وجسد طائر وذيل عقرب.

مخطط القلعة المحصنة على ضفة نهر الخابور والتي ضمت القصر الشمالي الشرقي والقصر - المعبد.

يعتقد علماء الآثار أن القصرَ الشمالي الشرقي قد استُخدم فقط مسكناً للملك؛ إذ لم يُعثر بداخله على أي غرف استقبال، بل اقتصر على قسم خاص ضم مجموعة غرف للسكن وحمَّاماتٍ وحرملك ومنطقة إدارية، وتدل اللقى الفخارية التي عُثر عليها داخل القصر على استخدامه أيضاً خلال فترة الاحتلال الآشوري للموقع.

من أبرز البقايا المعمارية ضمن مجمع القلعة هو ما اصطُلح على تسميته القصر- المعبد والذي سُمي كذلك لاعتقاد علماء الآثار أنه استُخدم لهذين الغرضين في وقت واحد. امتاز القصر المعبد بواجهته المحمولة على تماثيل والمتجهة نحو النهر الأمر الذي أتاح للملك رؤية أخّاذة من شرفات قصره الشرقي. استُخدمت ثلاثة تماثيلَ مصنوعةٍ من الحجر البازلتي لحمل السقف في واجهة القصر- المعبد.

إعادة تشكيل تخيلية لواجهة القصر المعبد وتماثيلها الثلاثة.

التمثال الأوسط بارتفاع ثلاثة أمتار هو لكائن مُذكّر يقف على ثور ويحيط به من طرفه الأيمن تمثال لهيئة مؤنثة تقف على أسد، وأما من الجهة اليسرى تمثال لهيئة مذكرة تقف على أسد أيضاً. ونُصب بجانبي المدخل تمثالين لأبي الهول. وزُينت الواجهة الأمامية بجوار المدخل بكسوة مكونة من بلاطات بازلتية حفرت عليها تصاوير لآلهة وأسود ومشاهد صيد. يؤدي هذا المدخل إلى غرفة عريضة لها مدخل تحرسه تماثيل العنقاء؛ يؤدي هذا المدخل بدوره إلى غرفة عرضانية أخرى استُخدمت بداخلها الدعامات المنتصبة على قواعد حجرية وذلك لحمل السقف، وتُعدُّ هذه الغرفة  قلبَ المبنى. يصطلح على تسمية هذا النمط المعماري باسم (بيت حيلاني)، الذي انتشر على نطاق واسع في مناطق شمالي سورية. على بلاطات القصر نُقشت عبارة "قصر كبارا، ابن خديانو" ونُقشت عبارة "معبد إله الطقس"، وهو الأمر الذي دفع علماء الآثار إلى تسميته بالقصر المعبد وعلى افتراض أن تماثيلَ المدخل تعود لإله الطقس وعائلته. يدّعي حاكم "جوزانا" "كابرا" أنه باني هذا القصر المعبد، وأنه قام بما لم يتمكن والده وجده من القيام به. لواجهة القصر المعبد ذكرى خاصة في قلوب السوريين عامة والحلبيين خاصة؛ إذ أُنشِئتْ نسخةٌ طبق الأصل للتماثيل الثلاثة واستخدمت كواجهة لمتحف حلب الوطني.

إلى جنوبي القلعة عثر "أوبنهايم" على بعض القبور التي تعكس بعض طقوس الدفن لدى السكان خلال تلك القترة، وأكثر المكتشفات إثارة كان أحد التماثيل التي جسدت امراة جالسة ضمن كتلة مربعة وتمسك كأساً وتتدلى خصلتان مجدولتان من شعرها.

لحظة اكتشاف تمثال الربة الحلَفية.

ويبدو أن هذا الكشف قد أثّرَ في "أوبنهايم" أيما تأثير إذ يقول في إحدى كتاباته:

"إنها واحدة من أعظم تجاربي التنقيببية، وواحدة من أكبر مُتع الاكتشاف بالنسبة لي أن أترقّب كيف صعدت هذه الكتلة الحجرية من باطن الأرض! لقد استمر الأمر ساعات وأياماً حتى انتصبت هذه الربة الكبيرة الجالسة على عرشها وبحجمها الكامل أمامنا، يالها من سعادة أن هذه الكتلة الحجرية قد كانت سليمة تماماً؛ عاملي البدوي وصفها بأنها زوجتي!! وذلك لأنني كثيراً ما عدت إليها ولم أتمكن من أن أزيح بصري أو أنفصل عنها".

اختار "ماكس فون أبوبنهايم" أن تُنحتَ نسخة طبق الأصل لهذه الربة لتكون شاهدة قبره لاحقاً.

الألماني أوبنهايم مع زوجته كما لقبهما أحد العمال في الموقع.

نُقل هذا التمثال بالإضافة إلى التماثيل الأخرى إلى برلين، وتعرض للتدمير في العام 1943 خلال الغارات التي طالت مكان حفظها وأدت إلى تدميرها كثيراً. أطلق علماء الآثار الألمان عدة مشاريع لاحقة لإعادة ترميم التماثيل المدمرة، وأقاموا في العام 2014 معرضاً في مدينة بون الألمانية أطلقوا عليه اسم (مغامرة الشرق - ماكس فون أوبنهايم واكتشافه تل حلف).

الجدير بالذكر آخراً؛ أن تل حلف يعدُّ ثاني أقدم موقع سوري نُقِّبَ بعد "كركميش" التي نُقبت أولاً لتليها التنقيبات في تل حلف.

------------------------------------------------------------------------------------------

[1] يوجد في علم الآثار تقنيات ومناهج مختلفة للتأريخ؛ وهي التأريخ الطويل والتأريخ المتوسط والتأريخ القصير، وبناء عليه؛ يوجد تواريخ مختلفة لحضارة حلف وغيرها من الحضارات، غير أن هذا التأريخ الوارد في النص هو الأكثر شيوعاً.

المصادر:

1- Der Tall Halaf und sein Ausgräber Max Freiherr Oppenheim، Nadjia Cholidis und Lutz Martin، Berlin 2002. 

2- Ebla to Damascus Art and Archaeology of Ancient Syria، an exhibition from the Directorate General of Antiquities and Museums، Syrian Arab Republic، Edited by Harvey Weiss، Washington 1985. 

3-  The Early Prehistory of Mesopotamia: 500،000 to 4500 B.C، Roger Matthews، Brepols 2000. 

4- اللغة الآرامية القديمة، الدكتور فاروق إسماعيل، منشورات جامعة حلب 2001. 

5- عصور ما قبل التاريخ، الدكتور سلطان محيسن، منشورات جامعة دمشق، دمشق 2006.