كتاب > الكتب الأدبية والفكرية

مراجعة كتاب (مدخل إلى التنوير الأوروبي): إشكالية فهم الأصوليين للتنوير

يناقش الكتاب التجربة الأوروبية في الانتقال من العصور الوسطى التي عُرفت بالعصور الظلامية إلى العصور الحديثة مرورًا بعصر النهضة، وذلك عن طريق عملية تنويرية صعبة وطويلة، وهو يناقش هذه التجربة لإعطاء المثقف العربي ثقةً بإمكانية النجاح.

ويرى الكاتب (هاشم صالح) أنَّه ينبغي تكوين رؤية جديدة لعلاقة الدين بالعلم لكي لا يكون الدين عائقًا في وجه التطور، ولن يحدث ذلك إلا بتفكيك العقلية القديمة ونزع القدسية منها؛ لفهم دور الحركات التنويرية، فيقول الكاتب:

"العلَّة ليست في الدين، بل في الفهم المتعصِّب والمشوَّه لمبادئ الدين السمحة، ولذا فإنَّ التنوير –على عكس ما يراه الأصوليون بأنَّه كفر وإلحاد- هو رفض للإيمان القائم على التسليم والتصديق بشكل مسبق والدعوة إلى الإيمان القائم على العلم والعقل."

وهنا تكمن مشكلة فَهْم الأصوليين للتنوير، فهم في حالة حنين دائم إلى الماضي ولكنَّه -حسب رؤية الكاتب- ليس الحنين الإيجابي؛ أي إلى المفكرين والفلاسفة، بل الحنين إلى القشور في الدين والتمسُّك بها، فهم بتعصُّبهم الأعمى يواجهون أيَّة حركة فكرية جديدة، ويطرح الكاتب مثالًا على ذلك في ردة فعل السلطات الكهنوتية المسيحية على الانخراط المفاجئ للفلسفة العربية-الإسلامية مع الثقافة الغربية.

فقد أصدر المجمع الكنيسي عام 1210م قرارًا يمنع قراءة كتب ابن سينا والفارابي وأرسطو؛ وقد حاولت الكنيسة آنذاك محاولات كثيرة لمواجهة المفكرين والعلماء حينها، فقد أصدر البابا (غرفوريوس التاسع) عام 1233م قرارًا بإنشاء محاكم التفتيش التي تكمن مهمتها في محاربة ما يُسمَّى (الهرطقة)؛ أي الانحراف عن العقائد والمسلَّمات المسيحية، وشُكِّلت لجنة خاصة لتحريم الكتب في الفاتيكان أيضًا، وكانت مهمتها ملاحقة الكتب الفلسفية والعلمية.

وقد أحرقت محاكم التفتيش الإسبانية وحدها مئة ألف شخص بين عامي 1480_1834، ولم ينجُ العالم (غاليليو) منها إلا بعد عدوله عمَّا قاله في خصوص كروية الأرض، على الرغم من أنَّه قِيل: "قد خرج من المحكمة وهو يتمتم: (لكنَّها كروية)."

وإنَّنا إذ نقول إنَّ العصور الوسطى كانت فترةً ضائعة في حق المعرفة فإنَّنا بذلك نظلم الثقافة العربية، فقد كانت الحضارة الإسلامية العربية آنذاك في أوجِّ ازدهارها المعرفي، ويذكر الكاتب في كتابه ما قاله (آلان دو ليبرا) عن دور العرب في نهضة أوروبا:  

"إذا ما احترمنا الحقيقة التاريخية لا يمكننا أن نتجاهل الدور الحاسم الذي أدَّاه العرب في تشكيل الهوية الثقافية لأوروبا."

فقد قدَّمت الحضارة العربية أهمَّ المفكرين والفلاسفة، منهم ابن سينا والفارابي وابن رشد، وتُرجِمت مؤلفاتهم إلى اللاتينية، وأَدخلت الإرث الأرسطي إلى الغرب عن طريق ترجمتهم له وتطويره، وبذلك راحت تتدفق إلى أوروبا وجامعاتها أجزاء من الثقافة العربية، ولكن؛ قلَّ النشاط الفكري العربي بعدها بسبب عوامل الانسداد الفكري وقَتْل الترجمة بحجج تُشابه حججَ العصور الوسطى الأوروبية عندما قَمعت مُفكريها، وانتهى عهد بغداد وقرطبة وبدأ عهد باريس وأكسفورد.

وهكذا، حمل الغرب مِشعَل الفكر عن العرب (للاطلاع على تأثير الفلسفة العربية في الغرب اللاتيني من هنا).

و لم يكن هدف المفكِّر (هاشم صالح) ذِكْر هذه الوقائع للتغنِّي بأمجاد الماضي، بل ليعطينا ثقةً بالنفس بأنَّه يمكننا الانطلاق تجاه المستقبل بعد أن يدرس المجتمع ويتعلَّم من تاريخه المُزدهر، ويقول في هذا السياق:

"إن كنَّا قد استطعنا أن نفعل شيئًا في الماضي ونقدِّم إسهامنا الخاص للحضارة الكونية، فلماذا لا نستطيع فعل ذلك في المستقبل."

ولكن؛ يجب علينا أن ندرك أنَّ ذلك لم يكن في ليلة وضحاها، فقد كانت عملية الإصلاح هذه صعبةً وبطيئة ومتعثِّرة، وكان لأكثر من عامل دورٌ في الانتقال إلى عصر جديد هو عصر النهضة.. وأهم هذه العوامل هو ممارسات رجال الدين المخالفة للمبادئ الدينية، فقد عُرِف بعض الكهنة بثرائهم وعيشهم حياةَ الرفاهية في قصور الفاتيكان ممَّا أثار غضب المجتمع الأوروبي، إضافةً إلى ملاحقة محاكم التفتيش العلماءَ والمفكِّرين وتصفيتهم، وقد هزَّ ذلك صورةَ السلطة الدينية والكهنة في أعين الناس، ولا ننسى أنَّ  الحروب المذهبية الطاحنة التي وقعت بين الكاثوليكيين والبروتستانت على مدار القرنين السادس عشر والسابع عشر والتي راح ضحيتها الملايين أضعفت شوكة الأصوليين، أمَّا السبب الأهم فهو ولادة الحضارة الصناعية والعلمية، وهذا الأمر الذي لم تستطع الكنيسة مواجهته على حد تعبير الكاتب.

إنَّ مقارنة الواقع الأوروبي مع الواقع العربي اليوم لا يخلو من الظلم وتخييب للآمال؛ لأنَّ أوروبا قد تجاوزت مرحلة النهضة  ودفعت ثمنًا باهظًا للوصول إلى عصر الحداثة.

أما المنطقة العربية، فلم تصل إلى الصحوة والنهضة التي تساويها بعد، وعليه فيجب مقارنة واقعنا مع  واقع أوروبا في العصور الوسطى لإيجاد سبيل لعصر نهضوي حقيقي يعيد الإنسان العربي إلى دوره في تكوين الحضارة الإنسانية[a].

معلومات الكتاب

صالح؛ هاشم. مدخل إلى التنوير الأوروبي؛ بيروت : دار الطليعة للطباعة والنشر؛ 2005

عدد الصفحات :  266