كتاب > روايات ومقالات

مراجعة كتاب (المسيح يصلب من جديد): طريق الآمال والآلام

تدور أحداث رواية (المسيح يصلب من جديد) في قرية ليكوفريسي اليونانية، وتبدأ الحكاية داخل منزل القسيس الهرم؛ إذ اعتادت القرية إقامة طقوس كل سبع سنوات لتعيد إحياء مأساة آلام المسيح في أثناء صلبه، وتُجسِّد الآلام في تمثيلية يشارك فيها أهل القرية بعد حلول الأسبوع المقدَّس.

ويتغلغل جدلٌ واسع بين أهالي القرية في عملية الإحياء هذه، ويتمثَّل هذا الجدل في اختيار الأشخاص لتمثيل مشهد آلام المسيح، فـ(كاترينا) تمثِّل دور (مريم المجدلية) في عملية الإحياء تلك، و(كاترينا) هي أرملة غرقت في ملذات الجسد بعد وفاة زوجها، وكان هناك في المقابل اختيارات صعبة نسبةً إلى إيمانهم؛ مثل دور (يهوذا الأسخريوطي، وهو تلميذ المسيح الذي خانه ووشى به إلى الرومان) وكان الاختيار من نصيب (بانايوتي) آكل الجبس الذي رفض رفضًا قاطعًا قبول الدور الذي أُحيل إليه بأن يكون خائنًا للمسيح حتى ولو كان تمثيلًا مجردًا.

أما الرسل وأولهم (بطرس)، فقد وقع الاختيار على البائع المتجول (ياناكوس) لتمثيله، وتلميذ المسيح الثاني (يعقوب) مثَّله صاحب المقهى (قسطندي)، ثمَّ (يوحنا) الذي مثَّله ابن عمدة القرية(ميشيل)، وأما شخصية (بيلاطس) فذهبت إلى العمدة نفسه؛ الشيخ (بطرياركاس)، وشخصية (قيافا؛ من شارك في محاكمة المسيح) مثَّلها العجوز الثري والبخيل (لاداس)، والذي فضَّل أن تموت ابنته الوحيدة على أن يدفع مالًا لأجل علاجها لشدة بخله.

ولكنَّ الجزء الأكثر جدلًا وصعوبة كان في اختيار من يمثِّل المسيح نفسه، وكان الاختيار من نصيب راعي الأغنام (مانولي)؛ الذي عليه أن يحتمل المشقَّات المرافقة لتلك الطقوس، فهو سيُضرَب وسيُحمَل صليبُه بين الجموع ويُوضَع على رأسه إكليل الشوك.

وكان القدماء يسمون ذلك بـ"السر"؛ إذ تبدأ طقوسه يوم أحد السعف في الفناء الخارجي للكنيسة، وتنتهي منتصف ليلة سبت النور في حديقة الكنيسة بقيام المسيح.

وفي هذا العمل المُجسِّد لطقوس السر لم يقتصر الأمر على اختيار ممثلين وتدريبهم للقيام بأدوارهم، بل يُسلَّط فيه الضوء على خلفية الشخصيات التي سوف ينال منها كثير من التغييرات النفسية، وهذه التغييرات تُعدُّ عُمْق هذه الرواية وفكرتها؛ إذ إنَّ ابن العمدة (ميشيل) رفع صوته في وجه أبيه لأول مرة وتجرَّأ على إخباره بأنَّه لا يخافه بل يخاف الرب، أما (مانولي) عزف عن الزواج ليختلي بنفسه ويسمو بروحه مع أغنامه في منزله في أعلى جبل ساراكينا وكأنَّ روح المسيح بدأت تجتاحه حقًّا.

وقد استخدم (كازانتزاكيس) لغةَ الكُتُب المقدسة في كتابة روايته هذه، فهي مليئة بالمعاني السامية التي ترفض ملذات الحياة وتسمو عنها مقابل ارتقاء الروح إلى مراتب أعلى، ومن جهة أخرى، أسبغَ عليها فلسفته الخاصة في الحياة، والتي تعتمد على أهم صراعٍ قامت عليه البشرية وهو الصراع بين الخير والشر؛ الملائكة والشياطين، والتي أسقطها على أحداث الرواية في حرب بين الفقر والثراء الفاحش، والجوع والتُخمة.

ويجسِّد (كازنتزاكيس) أفكاره -أيضًا- في سرد للأحداث عندما وفد إلى قرية ليكوفريسي لاجئون من قرية يونانية أخرى نتيجةَ المذابح العثمانية التي لحقت بهم، وكانوا يأمَلون في نُصرة المسيحي لأخيه المسيحي، وهذا عملًا بأخلاق المسيح في نُصرة المظلومين والمساكين، ولكنَّ أعيان القرية نبذوهم وامتنعوا عن تقديم يد المساعدة، فكانت هذه الشرارة التي أشعلت كومة القش فيما بعد وانقسم أهل القرية على بعضهم، فعمل قسيس القرية (جريجوريس) على إقناع الأهالي بكلامه عن طريق اقتطاع بعض كلام الكتاب المقدَّس وتزويره ليظهر أولئك اللاجئون على أنَّهم دخلاء يشكِّلون خطرًا على أمن القرية وسلامتها.

أما قسيس اللاجئين الأب (فوتيس)، فكانت تقطر من فمه كلماتُ المسيح بما تحمله من محبة وأخوة وتسامح، وذلك في طلب لتقديم المساعدة ريثما تلتئم جروح أهله بعد العذابات التي مروا بها كلها، ولكنَّ كلامه لم يلقَ أيَّ صدى عند شيطان مُزدان بملابس كهنوتية متمثِّلٍ بقسيس القرية.

في حين أنَّ (مانولي) والرسل الثلاثة بدأوا يجتمعون لقراءة الكتاب المقدَّس والتفكُّر في معانيه، وذلك من أجل التحضير لليوم الكبير، وأما ضمائرهم الحية وقلوبهم النقية، فقد جعلت موضوعَ اللاجئين صُلْب اهتمامهم من ناحية أخرى، فتحوَّلوا عن قسيس القرية عندما بدأوا يستشعرون الظلام الذي يخيم على روحه، وأصبح الأب (فوتيس) يرأس اجتماعاتهم.

وهكذا، يطغى على طابع الرواية كثيرٌ من السوداوية في تصويره للمأساة عندما يعمل الحقد والكراهية في قلوب الناس، وحين يُعمي الجشع بصيرةَ رجال الدين، ولم يغفل (كازنتزاكيس) عامل التشويق والمفاجآت الحزينة عندما يتحوَّل الأمل إلى ألم يعتصر الأجساد، فيسقط الأطفال قتلى الجوع وتُدفَن معها قلوب الآباء وأرواح الأمهات؛ إذ لطالما كانت تكلفة الوقوف في جانب الحق والخير والفضيلة باهظةً جدًّا، فهي قد أزهقت على مر الزمان حياةَ كثيرٍ من المختارين والعوام على حد سواء، ولكنَّ الشر يعود كل مرة بقوة وجبروت ودهاء ليجعل من الخير ضُعفًا ومن المحبة ظلمًا ومن الفضيلة ذلًّا، وكان هذا صُلْب ما بُنِيَت عليه أحداث الرواية، فالمسيح -بحسب اعتقادات أهل القرية- قد صُلِب ليمحو خطايا شعبه ممن خذلوه وكان شهيد الالتزام بالمبادئ السامية.

"لاجدوى يا يسوع، لا جدوى. مضى على صلبك ألف عام وما زال الناس يصلبونك من جديد، أي يسوع ربي، متى ستولد يا إلهي ولا تصلب ثانية، ولكن؛ تعيش بين ظهرانينا خالدًا إلى الأبد؟"

معلومات  الكتاب:

كازنتزاكيس، نيكوس. المسيح يصلب من جديد. ترجمة: جلال، شوقي. مصر-القاهرة: دار آفاق للنشر والتوزيع، 2015. عدد الصفحات: 578