العمارة والتشييد > التصميم المعماري

تاريخ بناء الجسور الحديدية والفولاذية

انتهى عصر استخدام الخشب في الثورة الصناعية وبدأ عصر الحديد الأقوى من الحجر والأقل تكلفة، إذ بُنيَت الكثير من الجسور الحديدية والفولاذية المذهلة تاريخيًّا وماتزال صامدةً حتى الآن لتشكِّل جزءًا من مواصلاتنا، ونُفِّذت عمليات صيانةِ بعض الجسورِ القديمة وإعادة بنائها ممَّا أدى إلى حدوث خلطٍ بين المواد من عصورٍ مختلفة.

الحديد: 

استُخدمَ الحديد كثيرًا بعد الثورة الصناعية، إذ حلَّ بديلاً عن الخشب وحجارة البناء في الكثير من المنشآت الهندسية الجديدة، بسبب ما يمتلكه من ميِّزات تزيد من فعالية استخدامه؛ كالقوة والتكلفة مقارنةً مع المواد الأُخرى.

صمَّمَ Thomas Pritchard أوَّل جسرٍ مكوَّنٍ من الحديد فقط، وبُنيَ هذا الجسر عام 1779 من قبل Abraham Darby وامتدَّ فوق نهر Severn قرب Coalbrookdale في إنكلترا، وصُنع بأجزاءٍ من الحديد الصب (الزهر) الذي يتميز بمقاومته الكبيرة على الضغط، وكان الجسر الوحيد الذي نجا من الفيضانات التي أصابت المنطقة حينها.

ثمَّ بدأَThomas Telford بإنشاء سلسلةٍ من الجسور المعدنية التي تُصنَّف الآن بأنّها من أفضل الجسور في زمنها من الناحية الفنية والتقنية، ويُعَدُّ جسر Craigellachie Bridge المُمتد فوق نهر Spey في Scotland من أقدم الجسور المعدنية المتبقية حتى الآن من هذه السلسلة، ويتميَّز بقوسيه اللذين يصل طولَهُما إلى 45 م، ويظهر هذان القوسان بشكل قطعٍ مكافئٍ تقريبًا، ويتكوَّن كلُّ قوسٍ من منحَنيين متَّصلين مع بعضهما بواسطة دعاماتٍ مقويةٍ على شكلِ حرف x  لتحمُّل الحمولات المطبقة.

أشعل استخدام الحديد المطاوع والاقتصادي مخيِّلة المصمِّمين، ممَّا أدَّى إلى استخدام Thomas Telford للكابلات المعلقة التي تعمل بوصفها عناصر تتحمَّل القِوى الشَّادة والمكوَّنة من قضبانٍ من الحديد المطاوع  بطولٍ يتراوح بين 6 و9 م مع وجود ثقوبٍ عند كلِّ طرف؛ إذ تتصل نهاية كل قضيب مع قضيبٍ آخر مشابه بواسطة مشبكٍ معدني (بروش)، ويعدُّ جسر Menai الذي بُنيَ فوق نهرٍ يحمل الاسم ذاته عام 1826 من أوائل الجسورِ المطبَّقة بهذه الطريقة، وفي العام 1893 استُعيض عن سطحه الخشبي والكابلات ذات الحديد المطاوع بسطحٍ معدنيٍّ وكابلاتٍ من الفولاذ.

من أهم أنواع الجسور التي استخدمت الحديد:

1- جسور السكك الحديدية:

حفَّز صعود القاطرة وسيلةً من وسائل النقل في القرن التاسع عشر على إيجاد  تصاميم جديدة للجسور، بهدف الحصول على قوَّةٍ كافيةٍ للتعامل مع كلٍّ من زيادة الوزن والأحمال الديناميكية للقطارات، ومن أهمِّ جسورالسكك الحديدية الأولى جسر Britannia لـ  Robert Stephenson فوق مضيق Menai، إذ كان تصميم Stephenson أول من وظَّف جائز(عارضة) الصندوق المُفرغ والذي أعطى سطح الجسر صلابةً أكبر ممَّا يعطيه الجائز الشبكي، إضافةً إلى سهولة تنفيذه والدقة الهندسية الأقل التي يطلبها على الرغم من استخدامه مواد أكثر.

تُشكِّل أرضية الصناديق المصنوعة من الحديد المطاوَع والتي تمر عبرها القطارات سطح الجسر المحمول فوق جوائز الصندوق المفرَغ، وكان من المفروض أن تُعلَّق هذه الأرضية بواسطة سلسلةٍ من الكابلات، ولكن أشارات الاختبارات النظرية واسعة النطاق في أثناء العمل إلى أنَّ الكابلات لا حاجة لها.

أمّا في جسرRoyal Albert  المار فوق نهر Tamar في Saltash فقد استخدم المصمِّم Isambard Kingdom Brunel مزيجًا بين القوس الأنبوبي وسلاسل الكابلات، إذ أعطى ارتفاع الأقواس فوق بلاطة الجسر واقترانها مع سلاسل الكابلات المعلَّقة الجسر شكلًا يوحي بأنَّه مجموعةٌ من الأعين.   

وكانت جسور Gustave Eiffel من أهمِّ جسور السكك الحديدية في القرن التاسع عشر، إذ شيِّد بين عامي 1867 و1869 أربعة جسورٍ من الجوائز الشبكية الممتدة بين Gannat وCommentry غرب Vich في فرنسا، وكان الجسر الواقع في Rouzat أكثرها روعةً لتميُّزه بأبراجه المصنوعة من الحديد المطاوع والتي أظهرت الحاجة إلى تأمين صلابةٍ جانبيةٍ لتحمُّل الحمولات الجانبية القادمة من الزلازل والرياح، وممَّا ساعد على تحقيق هذه القساوة حني الأبراج عند نقطة التقائها مع الأساسات، وبلغت هذه الطريقة أوجها في برج إيفل الباريسي الشهير.

صمَّم Eiffel جسرين قوسيَّين كبيرين أيضًا كانا أطول جسور هذا النوع في وقتهما، الأول هو جسر Maria Pia على نهر Duoro بالقرب من Porto  البرتغالية  بطول 157 م وارتفاع 42 م عند ذروة القوس الهلالي الشكل، ومع توسع القوس عند قاعدته اكتسب المنشأ صلابةً جانبيةً أكبر، وعلى عكس جسر Garabit Viaduct على نهر Truyère قرب Saint-Flour  في فرنسا الذي يعَدُّ تتويجًا لنوع الأقواس الهلالية بطولٍ يصل إلى 162 م، فقد فُصِل القوس عن العارضة الأفقية بصريًّا.

صُمِّم كلا القوسين مع مفاصل عند القواعد ممَّا ساعد على إعطاء الشكل الهلالي للقوس، إذ إنَّ القوس مدبَّبٌ وعريضٌ في القواعد وضيِّقٌ وعميقٌ في الذروة، وقد عمل هذا التصميم المفصلي على تسهيل عملية الإنشاء وإنتاج الصورة البصرية القوية التي يقصدها Eiffel.

جسر ماريا بيا 

 2-الجسور المعلَّقة 

أنشأ المهندس  John Roeblingعام 1841 في الولايات المتحدة الأمريكية مصنعًا لصُنع حبالٍ من أسلاك الحديد، واستُخدِمت هذه الحبال بوظيفة كابلاتٍ معلَّقةٍ في الجسور، وابتكر طريقةً للفِّ الكابلات في مكانها بدلًا عن لفِّها مُسبقًا ثمَّ إحضارها إلى مكان البناء.

 أكمل John Roebling  في عام 1855 جسرًا لسكَّة حديدٍ بطول 246 م فوق نهر  Niagara River  غرب ولاية New York، ولم تكن حمولة الرياح والحمولات الأفقية مفهومةً حينها، ولكنَّ John أدرك الحاجة العملية لمنع التذبذبات الرأسية، لذلك أضاف العديد من الأسلاك التي امتدَّت على شكل شبكة عنكبوت من سطح  الجسر باتجاه الوادي في الأسفل والأبراج في الأعلى، فأربك الجسر الحكم الهندسي وقتها والذي رأى بأنَّ الجسور المعلَّقة لا تتحمَّل حركة القطارات، وعلى الرُّغم من حاجة القطارات إلى تخفيف سرعتها حتى 5 كم/الساعة والإصلاحات الدائمة، ظلَّ الجسر في الخدمة مدَّة 42 سنة، واستُبدل بعد ذلك بجسرٍ أقوى لأنَّ القطارات الحديثة التي تسير بسرعاتٍ هائلةٍ وبوزنٍ أكبر وصلت إلى الساحة ولم يعد بإمكان الجسور البسيطة تحمُّلها.  

جسرٌ آخر للمهندس  John Roebling يظهر عظمة أسلوبه؛ وهو جسر Cincinnati فوق نهر  Ohio ويدعى هذا الجسر الآن John A. Roebling ويُعدُّ نسخةً مبدأيةً عن جسر Brooklyn العظيم؛ إذ استخدم كابلاتٍ من الحديد بطول 317 م.

الفولاذ:

بين الحرب الأهلية الأمريكية والحرب العالمية الأولى بلغت السكك الحديدية ذروتها في الولايات المتحدة وازدادت الحاجة إلى الجسور التي يجب أن تكون قادرةً على التعامل مع هذه الحمولات الثقيلة، ممَّا أدَّى إلى استغلال العمليات الجديدة في صنع الفولاذ في العديد من الجسور المهمة.

من أهم أنواع الجسور التي استخدمت الفولاذ:

جسور السكك الحديدية 

مثل جسر Eads فوق نهر Mississippi الذي صمَّمه  James Buchanan Eads  وكان من أوائل الجسور التي بُنيت من الفولاذ فقط باستثناء أساسات الركائز، إذ يتألَّف هذا الجسر من ثلاثة مجازات قوسية بطول 151 م للمجازين الطرفيين و156 م للمجاز الوسطي، وزادت قوة تحمله بواسطة أساساته المتينة والتي استُخدم من أجل بنائها القيصونات caissons -التي تعمل بالهواء المضغوط- لأول مرة في الولايات المتحدة.

وآخر الابتكارات التي ابتكرها Eads وفق اقتراح Telford بناء الأقواس باستخدام طريقة الكابولي، إذ عُلِّقت الأقواس بواسطة كابلاتٍ مدعومةٍ بأبراجٍ مؤقَّتةٍ فوق الأرصفة، وأزيلت بعدها عندما أصبحت الأقواس قادرةً على دعم نفسها.

جسر Forth  فوق خور Forth  في أسكتلندا والذي صمَّمه Benjamin Baker واكتمل بناؤه عام 1890، والمؤلف من مجازين ظفريَّين بطول 516 م وارتفاع 103 م فوق الأساسات الحجرية.

انتهى بناء  جسر Hell Gate من قبل  Gustav Lindenthal في عام 1916،إذ صُمِّم ليبدو هائلًا بوجود برجَيه الحجريين وبتَعريض المسافة بين الوترين المشكلَين للقوس عند الدعامة، لكن لم يكن للأبراج وظيفة إنشائية، والوتر السفلي للقوس هو الذي ينقل الحمولات إلى الدعامات المتمفصل معها، وتنتقل الحمولات من الدعامات إلى الأساسات، وكان قوسه بطول 293 م من أطول الأقواس في العالم حينها.

إضافةً إلى جسورٍ أخرى كجسر Bayonne في مدينة New York، وجسر Sydney Harbour في أستراليا. 

الجسور المعلقة 

يُعَدُّ أشهر جسور هذا النوع جسرBrooklyn ، إذ توفي John Roebling عام 1869 بعد فترةٍ قصيرةٍ من بداية بناء جسر بروكلين، لكنَّ ابنه واشنطن أخذ المشروع وأكمله، وقد تخطَّى الجسر العديد من العقبات باستخدام القيصونات التي تعمل بالهواء المضغوط ليعمل العمَّال في أرضٍ جافة، ويُعَدُّ أول جسرٍ معلَّق استُخدمت فيه الأسلاك الفولاذية في الكابلات بقطر 40 سم لكلِّ كبل، وغُطِّي كلُّ سلكٍ من الأسلاك بمادةٍ تحميه من الصدأ، واستغرقت عمليةُ لفِّ أسلاك الكابلات على طول النهر قرابة 26 شهرًا، وأُكمل الجسر في العام 1833 بعد العديد من المشكلات السياسية والعملية و27 حادثًا مميتًا على الأقل.

وللتعرف إلى الجسور المعلقة يمكنكم متابعة مقالنا الذي يتحدث عن تفاصيلها الرائعة وفق الرابط الآتي:

هنا

نلقاكم في محطةٍ أخرى لنتعرَّف المادة الأخيرة في بناء الجسور؛ وهي البيتون المسلح والبيتون مسبق الإجهاد. 

المصدر:

هنا