كتاب > الكتب الأدبية والفكرية

مراجعة كتاب (الهوية غير المكتملة): رؤية صوفية تنبض بالحداثة

- الصوفية عند أدونيس

تقول الصوفية العربية: لا يمكننا معرفة الله بالعقل، ولكنَّه يُعرف بالقلب.

وذلك لأنَّ العقل لكونه حدًّا، فهو محدود أيضًا، وكل ما هو محدود لا يمكن أن يَفهم اللامحدودَ أو أن يدركه.

ويشقُّ الشاعر (أدونيس) طريقه تجاه إدراك الله بطرائق صوفية تخلو من المحتوى الديني، ويقصد (أدونيس) هنا أنَّها ترقى عن حدِّ النصوص الدينية، فلا يمكن الإحاطة بالله -في رأيه- عن طريق النصوص. 

وفي أعماق صوفيته، لا فرقَ بين الكائن الإنساني وبين الله على حد تعبيره؛ إذ يبلغ حالةً من الوجود تصل الإنسان بجوهر الكون متجاوزًا الحدود والعوائق المادية كلها، وحينئذٍ يغدو هو والله واحدًا، وذلك ما يُمكن تسميته بالاتحاد أو وحدة الوجود.

"هناك قراءة دينية تضع لله حدودًا، وتسجنه داخل خطاب يُفقره ويحوُّله لمجرَّد وظيفة"

يبدأ (أدونيس) فقرات الكتاب في أغلبها بتعبير: "في صوفيتي"، وكأنَّه يفصل نفسه عن كل مفهومٍ صوفيٍّ استُهلك قبلًا ليَشرع تجاه صوفيةٍ جديدة يوجِّهُها الأدب والشعر على وجه الخصوص.

وتجاه رؤية حديثة للوجود والتأمُّل الصوفي والحدِّ من تقييد نصوص الدين لمفهوم الله والجسد والحرية، فإنَّ الشاعر السوري يواجه حاضرَ النصوص والمفاهيم المتداولة بثورة يقودها الشعر، ولا يخفى أن مسَّ تلك المفاهيم هو مسٌّ لمسلَّمات في وعي وثقافة المتديِّنين والمحافظين في مجتمعنا أو جزء كبير منهم؛ لنخرج من مغالطة التعميم، ومع ذلك، فإنَّ صوفيته تتجاوز هذا التسليم والتقديس المُطلق ليكتب الشعرَ حُرًّا من القيود صوفيةً ضد القتل باسم الإله، وضد احتكار اسمه في ممارسة الحرب تحت ظل الحجة القائمة وهي الدفاع عنه.

- الشرق والغرب؛ أفرادًا وسياسةً وإقليمًا

ويطلق الشاعر (أدونيس) العنان في قسم (ظلال لونية عربية) لنقد العرب، ويقصد الأقليم الناطق بالعربية بأطيافه كافةً، ونقد نفسه أيضًا، ويؤكد على التفريق بين العرب أفرادًا، وبما هم كائنات إنسانية، وبما هم مؤسسة؛ وهذا التفريق يصبُّ في ماهية فكر هذا الجزء من الكتاب لفهمه في صورته الصحيحة.

ويمر (أدونيس) على بعض الدول العربية واصفًا إياها بعبارات موجزة تقتضي سياساتها وتكوينها الثقافي، وفي مرور هذا يتناول أخطار الأصولية على الشرق الأوسط من جهتين، الأولى منها هي انتهاك الثقافة الحُرَّة والحداثة المزعومة داخليًّا، والثاني منها هو مثالب الفكر الغربي الداعمة لهذه الأصولية المتفشية.

"الغرب المنفتح لا يساهم قط في خلق مجتمعنا المنفتح الخاص بنا، ولكنَّه يقدم الدعم، إلى حد ما، للأصوليين كما لو أنَّه راغب فعلًا بأن يظل المجتمع العربي يراوح في رجعيته وظلاميته، وأن يتأسَّن العالم العربي خارج التاريخ."

 

- الثورة والأدب؛ كيف نعبر النهر؟

يجب أن تعي الثورة مقولة هيراقليط في بُعدها الفلسفي دائمًا: "لا يمكن عبور النهر مرتين"، فإنَّ العالم يتغير باستمرار، أو لنقل لا يمكن أن يَعبر فكرٌ -لا يطوِّر نفسه- فوق مياه النهر نفسها مرتين؛ لأنَّها تتدفَّق إلى الأمام دائمًا، ويوجه (أدونيس) الفكر الثوري تجاه التطور دون انقطاع، والخروج عن أيَّة ماهية سابقة وغير معاصرة، وبهذا يضمن عبور النهر دائمًا، ولكن؛ كيف نعبره حسب رأي (أدونيس)؟

نعبره عن طريق العولمة والحداثة، وعن طريق تطوُّر الإجابة عن أسئلة الوجود التي احتفظ الدين بإجاباتها لزمن طويل، فعن طريق ذلك يمكن أن يرتقي المجتمع تجاه مفهوم روحاني للدين دون أن يمتد تجاه السياسة والتسييس.

ويتطرَّق (أدونيس) لما بعد الرواية؛ كونها هي والشعر والفلسفة قيمة للكائن الإنساني، ويصف التيار الجديد من الأدب بأنَّه أشبه بتقارير عن الحياة اليومية، فإنَّه  افتقد الكشفَ والاستبصار، وليس أكثر من إعادة إنتاج للابتذال الذي تحفل به أيامنا كلها.

"إننا نشهد تحالفًا موضوعيًّا بين السوق والسلطة، وهو تحالف مخيف. لقد تغير العالم، كما تغير معنى الفلسفة والشعر والسرد الحكائي، استولت عليه الصحافة ووسائل الإعلام. يرى الصحافيون ووسائل الإعلام بأنَّ الثقافة ينبغي لها أن تغدو هي ذاتها سوقًا."

- الإنسان الحميم

يروي الشاعر (أدونيس) مقتضبات من طفولته، ويصبغها أدبيًّا وصوفيًّا، ثمَّ يتلو ذكرياته الأولى مع والدته، ويذكر والده كونه رجلًا ذا إخلاص وأصالة زرعَ فيه ثقافته الأولى بينما تحرَّر من كل شيء، ويعدُّ أنَّ تحرَّره من اسمه (علي أحمد سعيد إسبر) خطوته الأولى للتحرِّر من هويته الدينية، ومن يومها اختار اسم (أدونيس) تيمنًا بإسطورة أدونيس الفينيقية، وقد قادته هذه المسيرة -بشكل أو بآخر- إلى خلق هويته الخاصة، وهي الهوية الصوفية الثورية التي نتعرف إليها الآن.

"إنِّي أعيش في هذا المجتمع كما لو كنت أعيش في الدرجة صفر، اجتماعيًّا وسياسيَّا. إنَّها درجة الصفر بالمعنى الذي يحتاج فيها كل شيء إلى إعادة تحديد، وإلى إعادة نظر، وإلى إعادة عمل."

إنَّ هذا العمل يدفع القارئ إلى رؤية تتجاوز العالم المحسوس، بل يحمله إلى عوالم مختلفة يديرها النبض الشعري والصوفي، ومع أنَّ الشاعر (أدونيس) تطرَّق ونقد وعرَّى المجتمعات الشرقية والغربية في أصوليتها أو تسليعها للوجود الإنساني، ولكنَّه -وقد يُختلَف في ذلك- لم يتناول هذه المجتمعات والسياسات من جذورها تحليلًا وتنقيحًا، بل قدَّمها وصفيًّا تقديمًا شعريًّا لا أكثر.. وسواء كان هذا التقديم ممزوجًا من الواقع والصوفية أو لم يكن فهو نبضٌ ثوري للحداثة والشعر الحديث بكل تأكيد، وهو -بتعبيرٍ يُرجى أن يكون دقيقًا قدر الإمكان- يوقظ باطنَ الأشياء لتواجه ظاهرها.

"يتوجب علينا التأكد على القيم المؤسسة للكائن الإنساني المحافظ على هويته. وهذه القيم هي الإبداع، والشعر، والحب، والصداقة، والجمال."

معلومات  الكتاب:

أدونيس. الهوية غير المكتملة. عرّبه عن الفرنسية: عودة، حسن. سورية: بدايات للطباعة والنشر والتوزيع، طـ 1، 2015. عدد الصفحات: 112.