التاريخ وعلم الآثار > شخصيات من سورية

تحية فخر وتقدير لرائد المسرح العربي "ســعد الله ونّوس"

"إننا محكومون بالأمل وما يحدث اليوم لا يمكن أن يكون نهاية التاريخ .. منذ أربعة أعوام وأنا أقاوم السرطان وكانت الكتابة والمسرح بالذات أهم وسائل مقاومتي خلال السنوات الأربع التي كتبت فيها.. كتبتُ وبصورة محمومة أعمالاً مسرحية عديدة، ولكن ذات يوم سئلت وبما يشبه اللوم: "ولِمَ هذا الإصرار على كتابة المسرحيات في الوقت الذي ينحسر فيه المسرح ويكاد يختفي من حياتنا؟!"

باغتني السؤال، وباغتني أكثر شعوري الحاد بأن السؤال استفزني بل وأغضبني .. طبعاً من الصعب أن أشرح للسائل عمق الصداقة المديدة التي تربطني بالمسرح وأنا أوضح له أنّ التخلي عن الكتابة للمسرح وأنا على تخوم العمر هو جحود وخيانة لا تحتملها روحي وقد يُعجلان برحيلي.. وكان عليّ لو أردت الإجابة أن أضيف: إني مُصّر على الكتابة للمسرح لأني أريد أن أدافع عنه وأقدم جهدي كي يستمر هذا الفن الضروري حياً.. وأخشى أنّني أكرر نفسي لو استدركت هنا وقلت: إنّ المسرح في الواقع هو أكثر من فن.. إنّه ظاهرة حضارية مُركّبة سيزداد العالم وحشة وقُبحاً وفقراً لو أضاعها أو افتقر إليها.. ومهما بدا الحصار شديداً والواقع محبطاً فإني متيقن أنّ تضافر الإرادات الطيبة وعلى مستوى العالم سيحمي الثقافة ويعيد للمسرح ألقه ومكانته.."

أجل لقد صدق مَنْ قال إنّ الأعمال العظيمة تُخلد ذكرى أصحابها.. نعم أيها العظيم نحن محكومون بالأمل..

إنّ ما قرأته عزيزي القارئ في المقدمة هو جزء مُقتبس من نص رسالة يوم المسرح العالمي التي كانت آخر ما ألقاه "سعد الله ونّوس" سيد المسرح العربي .. فما رأيك بالسفر معنا عبر الزمن لنعيد عقارب الساعة إلى الوراء لنتابع الحكاية من البداية 

المقال:

" إننا محكومون بالأمل "

لطالما ترددت هذه العبارة على فمه فقد تحول موته إلى قيامة. كالفينيق نهض من الرماد، وعاش في داخلنا، وفي مشاعرنا، وفي عقولنا من خلال أعماله الخالدة .. ويصادف هذا اليوم ذكرى وفاته .. وفاة سيد المسرح العربي "سعد الله ونوس" الذي ستمر سنين طويلة قبل أن يأتي زمن فيه رجل مسرح بقامة ونوس، وحضوره، وإبداعه سواء في الكتابة الدرامية، أو في سعيه الحثيث للتنظير للمسرح العربي، أو في علاقته الحميمة، والداخلية مع الوجع العربي، ومع الإنسان العربي، ومع همّ الوطن ووضع الإصبع فوق الجرح تماما.. وهذا بسبب تملكه النظرة الثاقبة العميقة لمهمة المسرح الحقيقية بكونه أداة للتوعية لا بالمعنى العابر للمفردة، بل بما تحمله من مقدرة على إثارة التساؤلات وتحريض الفكر وملامسة هموم الوطن، وخلق علاقة داخلية دافئة وعميقة بين المسرح كفن بصري وبين الفلسفة والسياسة والمجتمع والتاريخ..

ولد الكاتب المسرحي السوري "سعد الله ونوس" سنة 1941 في قرية في شمالي غربي سوريا تُسمى حصين البحر بالقرب من مدينة طرطوس.. وسط أسرة فقيرة عاشت ضائقة مالية وصفها ونوس بأنها "سنوات بؤس وجوع وحرمان" ولما التحق بالمدرسة الابتدائية أظهر ضعفاً في مادة التعبير مما جعله يُكثِر من المطالعة عملاً بنصيحة مدرس اللغة العربية .. وكان أول كتاب اقتناه هو «دمعة وابتسامة» لجبران خليل جبران وكان عمره اثنتي عشرة سنة.. ونمت قراءته وتنوعت فقرأ لمجموعة كبيرة من الكتّاب ومنهم (طه حسين، ميخائيل نعيمة، نجيب محفوظ، إحسان عبد القدوس) .. وهكذا وبنمو قراءاته وتنوعها، عشق القراءة، وأصبح مولعاً بها، يقرأ كل ما يقع تحت يديه، ويشتري كتبه بالدّيْن. تابع الدراسة في ثانوية طرطوس، وحصل على الثانوية العامة في عام 1959 وفي نفس العام حصل على منحة دراسية للحصول على ليسانس الصحافة في كلية الآداب بجامعة القاهرة..

أثناء دراسته حدث انفصال الوحدة بين مصر وسورية، مما أثّر عليه كثيرا وكانت هذه الواقعة بمثابة هزة شخصية كبيرة دفعت به إلى كتابة أولى مسرحياته والتي لم تنشر حتى الآن، وكانت مسرحية طويلة بعنوان «الحياة أبداً» عام 1961.. وعاد إلى دمشق بعد تخرجه عام 1963، حيث عُيِّن مشرفاً على قسم النقد بمجلة «المعرفة» التي تصدر عن وزارة الثقافة .. وبعد ثلاث سنوات من العمل في مجلة «المعرفة» تركز اهتمامه فيها على المسرح، سافر عام 1966 في إجازة دراسية إلى باريس. وهناك وصلته أنباء هزيمة 1967 فتأثر كثيراً واعتبرها هزيمة شخصية له .. وعبّر عن ألم الهزيمة في مسرحيته التي أخذ شهرة بها «حفلة سمر من أجل 5 حزيران» عام 1968 وأثناء ذلك عاد إلى دمشق يُعاني آلاماً نفسية مُبرّحة استمرت أربعة أشهر عاشها كاتبنا حسب وصفه لها "في بؤس تام وفي شبه غيبوبة" .. ليعود بعد هذه الفترة الصعبة إلى فرنسا، التي أخرجته من عزلته بتفاعله مع الحياة الفكرية فيها ..

وبعد إنهاءه دراسته في فرنسا عام 1968، عاد إلى دمشق وعُيّن رئيساً لتحرير مجلة /أسامة/ للأطفال من عام 1969 إلى عام 1975 أخذ إجازة بدون راتب وعمل محرراً في صحيفتي السفير اللبنانية والثورة السورية.. وعندما اندلاع الحرب الأهلية في لبنان عاد إلى دمشق ليعمل مديراً لمسرح القباني الذي تشرف عليه وزارة الثقافة.. وأسس مع شريكه وصديقه المسرحي فواز الساجر 1948-1988 فرقة المسرح التجريبي في دمشق والتي قدمت عدة عروض وكان يهدف إلى تقديم مسرح وثائقي وسينما وثائقية حيث عمل مديراً للهيئة العامة للمسرح والموسيقى في سوريا .. كما عمل أيضاً مع مجموعة من المتحمسين للمسرح ومنهم علاء الدين كوكش على إقامة مهرجان دمشق المسرحي الأول 1969 وعُرِضت خلال هذا المهرجان مسرحيته /الفيل يا ملك الزمان/ ونجح المهرجان على مستوى الوطن العربي .. وفي عام 1977 أصدرت وزارة الثقافة مجلة «حياة المسرح» وأوكلت إلى سعد الله ونوس رئاسة تحريرها حتى عام 1988..

اعتزل ونوس الكتابة لعقد من الزمن ابتدأ بأواخر السبعينات وانتهى في أوائل التسعينات، وكان حساساً لكل ما يجري من حروب وهزائم على اتساع رقعة الوطن العربي ومنها هزيمة حزيران، الغزو الإسرائيلي للبنان وحصار بيروت 1982، وحرب الخليج 1990. وعكس هذا التأثر بمسرحياته حتى قيل أنه مؤرخ للهزائم العربية ابتداء من مسرحيته "حفلة سمر من أجل 5 حزيران" إلى "طقوس الإشارات والتحولات" عام 1994

أصيب ونوس بمرض خبيث في البلعوم عام 1992 وعلى الرغم من أن تشخيص الأطباء الفرنسيين لمدة المرض القاتل بستة أشهر فقط، فقد كانت إرادته أقوى من توقعاتهم، فصارع المرض لمدة استمرت خمس سنوات متسلحاً بإصراره على الكتابة والتأليف والإبداع.

عاوده السرطان عام 1994 في الكبد، وبدأ دورة علاج طويلة في دمشق.

وإيماناً من المعهد الدولي للمسرح التابع لليونسكو بما قدمه المبدع "سعد الله ونوس" للمسرح، تمّ تكليفه بكتابة "رسالة يوم المسرح العالمي" عام 1996، فكتب رسالته التي ترجمت إلى العديد من اللغات وقرئت على مسارح العديد من بلدان العالم (وما مقدمة هذا المقال إلا جزءاً من هذه الرسالة). وفي عام 1997 أبلغت لجنة جائزة نوبل للآداب إدارة اليونسكو للتربية والثقافة والعلوم إبلاغ المسرحي الكبير سعد الله ونوس بترشيحه لنيل جائزة نوبل للآداب وذلك عن ترشيح المجمع العلمي بحلب في سوريا .. ثم أجمعت على صحة الترشيح الأكاديميتان الفرنسية والسورية .. لكن الموت لم يمهله، فرحل عن هذا العالم في 15 أيار 1997 بعد أيام قليلة من خبر ترشيحه لنيل جائزة نوبل للآداب، ولكن تكريمه كان أكبر بترجمة أعماله إلى العديد من اللغات الأجنبية ومنها الفرنسية، والإنكليزية، والروسية، والألمانية، والبولونية، والإسبانية.

أعماله:

الحياة أبداً 1961

ميدوزا تحدق في الحياة 1964

فصد الدم 1964

عندما يلعب الرجال 1964

جثة على الرصيف 1964

مأساة بائع الدبس الفقير 1964

حكايا جوقة التماثيل 1965

لعبة الدبابيس 1965

الجراد 1965

المقهى الزجاجي 1965

الرسول المجهول في مأتم أنتيجونا 1965

حفلة سمر من أجل 5 حزيران 1968

الفيل يا ملك الزمان 1969

مغامرة رأس المملوك جابر 1971

سهرة مع أبي خليل القباني 1973

الملك هو الملك 1977

رحلة حنظلة من الغفلة إلى اليقظة 1978

الاغتصاب 1990

منمنمات تاريخية 1994

طقوس الإشارات والتحولات 1994

أحلام شقية 1995

يوم من زماننا 1995

ملحمة السراب 1996

بلاد أضيق من الحب 1996

رحلة في مجاهل موت عابر 1996

الأيام المخمورة 1997

استطاع ونوس تجسيد ثلاثة أنواع في أعماله بشكل واضح، وهي: المسرح التسجيلي، والمسرح الملحمي، والمسرح التاريخي ونعرض فيما يلي مثالاً من أعماله على كل نوع من الأنواع الثلاثة:

- المسرح التسجيلي: هو شكل من أشكال المسرح الواقعي، مهمته تسجيل الأحداث الجارية..

"حفلة سمر من أجل 5 حزيران" 1968 تدور أحداث هذه المسرحية داخل مسرح رسمي في إحدى الدول العربية ويتواجد في المسرح جمهور يضم مجموعة من رجال السلطة وعدداً من المواطنين واللاجئين ..

"سهرة مع أبي خليل القباني" تسجل هذه المسرحية نضال "القباني" من أجل خلق مسرح عربي في بلاد الشام وتُصوّر الصعوبات التي لاقاها من قوى رجعية تحارب كل ما هو جديد خوفاً على مصالحها ونفوذها وجسّد بمسرحيته الصراع القائم بين قوى التقدم والقوى الرجعية.

- المسرح الملحمي:وهو يهدف وظيفياً إلى كشف الحقائق من خلال المتعة، ويدعو المتفرجين إلى المشاركة في التغيير، ويعتمد في توجهه على العقل لا الانفعال، وعلى الفهم والمشاركة بالفكر لا الاندماج العاطفي..

وجسده ونوس في مسرحيته "الملك هو الملك" التي استلهمها من حكاية من حكايات «ألف ليلة وليلة» حيث تروي هذه الحكاية أنّ هارون الرشيد قد ضجر ذات مرة، فقرر أن يصطحب وزيره في جولة ليلية وأثناء تجوالهما سمعا رجلاً يتمنى الوصول إلى الحكم ولو ليوم واحد حتّى يُحقق العدل ويقضي على الظلم فُيقرر الخليفة أخذه إلى القصر ليجعل منه خليفة ليوم واحد. لكن ونوس لم يجعل قضيته تنتهي عند هذا الحد وإنّما أضاف عليها، كما غيّر ببعض شخصيات الحكاية..

- المسرح التاريخي: يمثله مسرحية "منمنمات تاريخية" إذ خصص سعد الله المنمنمة الأولى للشيخ التاذلي وعنونها "الشيخ برهان الدين التاذلي أو الهزيمة" .. واختار "ابن خلدون" ليكون محور منمنمته الثانية التي جعل فيها ابن خلدون يختار الميدان المعاكس لميدان المقاومة، وجعله يبّرر عدم دعوته الناس للمقاومة، وانحيازه إلى تحالف التّجار ورجال الدين والأوقاف في نظريته الخاصة "علم العمران البشري". وجاءت المنمنمة الثالثة المُعنونة "آزدار أمير القلعة أو المجزرة" للحديث عن الأمير عز الدين قائد المقاومة في قلعة دمشق.

شكّل سعد الله ونوس الضمير المعلن لعدد لا يُحصى من المثقفين والمبدعين العرب، الضمير القادر على الجهر في مشهد الصمت.

وربما كان اقتناعهم بذلك مُسكنّاً ليتسنى لهم الذهاب إلى النوم براحة زائفة فهناك مَنْ يحمل عنهم عبء المجابهات، وكأن المجابهة هي فرض كفاية لا فرض عين على كل مثقف يحمل قلماً جديراً بحمله لقد كان ونوس أحد علامات الضمير الشجاع الذي بات يتقلص ويندر، فقد خلق مسرحاً جديداً مختلفاً عن مسرح الخطابة، مسرحاً وجودياً فلسفياً يربط الكلمة بالفعل، وقد شرح ونوس في حوار أجراه عام 1979 تطور أسلوبه المسرحي بقوله: "منذ منتصف الستينات بدأت بيني وبين اللغة علاقة إشكالية ما كان بوسعي أن أتبينها بوضوح في تلك الفترة كنت أستشعرها حدثاً أو عبر ومضات خاطفة.. لكن حين تقوض بناؤنا الرملي صباح الخامس من حزيران.. أخذت تلك العلاقة الإشكالية تتجلى تحت ضوء شرس وكثيف ويمكن الآن أن أحدد هذه العلاقة بأنها الطموح العسير لأن أكثّف في الكلمة.. أي في الكتابة شهادة على انهيارات الواقع وفعلاً نضالياً مباشراً يعبر عن هذا الواقع وبتعبير أدق كنت أطمح إلى إنجاز (الكلمة – الفعل) التي يتلازم ويندغم في سياقها حلم الثورة وفعل الثورة معاً.. لم يكن دور المشاهد وحده يستوعب حدود الفعالية التي أتوخاها لكن المناضل الذي أريد أن أكونه ليس في النهاية سوى كائن فعله الكلمات".

وهكذا كان سعد الله ونوس مقاتلاً بالكلمة، وحالماً بالحرية حتى آخر لحظة في حياته. لم يهجر الكتابة، ولم يترك سلاحه من الورق والأقلام حتى في أيامه الأخيرة بالمستشفى وهو يودع دنيانا، بشهادة زوجته "فايزة شاويش"

وظل يردد "في الكتابة نقاوم الموت، وندافع عن الحياة"، فكتب مقاومة للموت ودفاعاً عن الحياة، وبقي حياً بكلماته، بمواقفه، بآلامه، وآماله التي تبعثه حياً على الدوام.

15 آيار يوم لن ننساه أبداً أيها العظيم .. لك منّا في الختام كل تحية وإجلال لشخصك الكريم ولإبداعاتك وسلام الله على روحك.

المصادر: 

مسرح سعد الله ونوس تأليف عبد اللطيف رمضان.

سعد الله ونوس الحضور والغياب تأليف صلاح الدين أبو دياب.

- مواقع