كتاب > اكتب تكن

مراجعة نزهة فلسفية في غابة الادب

يصطحبنا في هذه النزهة الفلسفية في غابة الأدب اثنان من أبرز الشخصيات في مجالي الأدب والفلسفة؛ إذ إنَّ (آيرس مردوخ Iris murdoch) روائية وفيلسوفة وأستاذة جامعية بريطانية عُرِفت برواياتها السايكولوجية وأطروحاتها في مجال الفلسفة، وركزت في أعمالها على منحى الخير والشر، وأنساق الأخلاقيات والعلاقات الجنسية وقوة التجربة اللاواعية في حياتنا البشرية. 

واختيرت روايتها المُعنونة (تحت الشبكة under the net) واحدةً من أفضل مئة رواية إنجليزية في القرن العشرين، وتلقَّت كثيرًا من الجوائز والتكريمات في مسيرتها المهنية.

وعلى الجهة المقابلة، الفيلسوف البريطاني (بريان ماغي Bryan magee)، فبالإضافة إلى كونه فيلسوفًا ومحاورًا فذًّا فهو شاعر وكاتب وسياسي، وقد ساهم في تقديم الفلسفة مادةً متناولة للعامة عن طريق عمله مقدِّم برامج، وجَعْلها مادةً تحظى بمتابعة الجماهير.

ويُعرَض محتوى الكتاب على شكل حوار عميق بين خبيرين في مجالي الأدب والفلسفة، وسوف نركز في هذا المقال على محتوى إجابات الروائية والفيلسوفة (آيرس مردوخ) أمام أسئلة محاوِرها الفيلسوف (براين ماغي).

أين يكمُن الاختلاف بين الأدب والفلسفة؟

لطالما كان بعض الفلاسفة كتَّابًا عظماء؛ مثل الفيلسوف البريطاني (برتراند راسل)، والفيلسوف الفرنسي (جون بول سارتر)، فكلاهما حاصل على جائزة نوبل للأداب، وكذلك الفيلسوف والروائي الفرنسي (ألبير كامو) في تقديمه لأحد أوجه العبثية في روايته (الغريب هنا) وروايته (أسطورة سيزيف).

وبالمثل، كان بعض الفلاسفة أصحابَ كتابة أدبية ركيكة، ويمكن تقديم الفيلسوفين الألمانيين (إيمنويل كانط) و(هيغل) مثالًا واضحًا عن ذلك، فعلى الرغم من عظمة (هيغل) تحديدًا -كونه فيلسوفًا- ولكنَّه كان محطَّ سخرية في محاولته لتوظيف الكتابة الأدبية في تقديم الفلسفة.

ومن هنا يطرح السؤال الآتي: هل الأدب والفلسفة حقلان متمايزان عن بعضهما ويمثِّلان حقلين مختلفين؟

تعبِّر الفيلسوفة (مردوخ) عن رؤيتها لهذا الاختلاف بأنَّه يكْمُن في مدى الوضوح والانضباط لكل منهما؛ إذ إنَّ الطرح الفلسفي الصحيح في رأيها ما هو إلا طريقة كتابة منضبطة تبتغي التوضيح والاستفاضة في كشف المعاني الجوهرية للأمور، وهي من تحدِّد ارتكازها ثم تشرَع في حل المعضلات الفكرية حتى تصل إلى غايتها المرجوة.

بينما الأدب هو "فنٌّ" في نهاية المطاف، ولأنَّه ملتزم بأحد أشكال التعبير الفني؛ فهو يُكتب كتابةً فنية تمتِّعنا وتملأ أرواحنا برؤى عوالم مختلفة من السحر والحِيَل والأجواء الإبهامية المقصودة والمطلوبة أيضًا.

إضافة إلى أنَّ الفيلسوفة (مردوخ) تنكر كون الفلسفة شكلًا من أشكال التعبير الذاتي، بل ترى أنَّه ينبغي أن يكون الطرح الفلسفي منضبطًا، ويكبح كل صوت ذاتي للفيلسوف؛ أي إبعاد شَخْصه وتقلباته والإدغام المشوش عمَّا يطرح،  فتكون الفلسفة صلبة وواضحة لا يمكن للقارئ أن يُعيد تشكيلها حسب رغباته. 

بينما في الأدب، يدمج الروائي -على وجه الخصوص- هذا الصوت الذاتي مع كتاباته، وهذا ما يترك مساحة حُرَّة للقارئ ليأخذ النص ويعيد تشكيله حسب رغباته؛ وهذا التشكيل الذي يتيحه الأدب على عكس الفلسفة،  فهو فنُّ نسجِ الحكايات في وسط خيالي مفتوح الحدود وتوظيف الأفكار بصورة جمالية.

ما نقاط التشابه بين الفلسفة والأدب، وما هو الفن؟

في طرح الفيلسوفة (مردوخ) لا يقتصر الأمر على التمايز والاختلاف بين الأدب والفلسفة، بل تشرَع تجاه نقاطهم المشتركة، فتقول في صدد هذا:

"الأدب والفلسفة، وعلى الرغم من اختلافاتهما المميزة، فهما في نهاية المطاف فعاليتان تسعيان إلى البحث عن الحقيقة والكشف عنها، وبهذا المعنى هما فعاليتان إدراكيتان تبغيان الحصول على توضيحات محددة."

وتتطرَّق (مردوخ) في حديثها عن قيمة الفن "وذلك يشمل الأدب كونه نوعًا من التقديم الفني"، والعداء الأفلاطوني معه مع أنَّ الفيلسوف (أفلاطون) بذاته استخدم الفن في تقديم طرحه الفلسفي واللاهوتي. 

ومن أهم الأسئلة المتعلقة بمفهوم "الفن" هي تلك التي تحدِّد مساره، أو نتيجته وأثره كونه حالةً تتلاعب بالمشاعر والأحاسيس تلاعبًا فضفاضًا وليس منضبطًا ومُحكمًا، فبالإضافة إلى عدِّ(مردوخ) الفنَّ وسيلة معرفية وتثقيفية، فهي تفصل بين الفن الجيد والسيء عن طريق سياق الاستخدام دون غيره، وتؤكد أنَّ الفن الجيد هو ذلك الذي لا يقبل التطوع في خدمة الاستخدام السيء، وذلك ينطبق على الأدب كونه فرعًا فنيًّا قابلًا للاستخدام في سياقات مختلفة كما ذكرنا سابقًا.

"إنَّ الخيال لأمر عظيم القدرة على بث الإيحاءات؛ ومن ثم قادرٌ على اجتراح التأويلات المفسَّرة، وهذا بالضبط جزء ممَّا يعنيه قولنا بأنَّ الفن محاكاة."

وفي خضم هذا الحوار بين الفيلسوفين (آيرس مردوخ) و(بريان ماغي)، يظهر خلاف جوهري متعلق برؤية "رواية الأفكار"، ويُقصد بها الرواية الفلسفية أو العمل الأدبي الذي يحمل معه الطرح الفلسفي عن موضوع ما، فالروائية (مردوخ) تقف موقفًا مناهضًا لهذه الرؤية.

ويتناول حوارهما الأخير روايةَ (الحرب والسلام) للكاتب (تولستوي) كونها رواية أفكار طُرِح عن طريقها وجهٌ من فلسفة التأريخ، ويمتد هذا الجدل إلى روايات أخرى طُرِحت من فلاسفة كبار؛ مثل رواية (الغثيان) للفيلسوف الفرنسي (جون بول سارتر).

ونستطيع وصف هذا العمل كما عُنوِن بالضبط؛ إذ إنَّه رحلة في غابة شائكة بين وجهين مُهمين للفكر  على مدى العصور، وما يضيف للكتاب قيمةً تدفعه إلى مرتبة أفضل هو الهيكل الحواري الذي يستند عليه، ولا تَخفى خبرة المترجمة والكاتبة العراقية (لطيفة الدليمي) وانضباطها في مجال الأدب والفلسفة في أثناء ترجمتها هذا الحوار إلى اللغة العربية.

معلومات الكتاب:

ماغي، بريان. مردوخ، آريس. نزهة فلسفية في غابة الأدب. ترجمة: الدليمي، لطيفة. بيروت: دار المدى للإعلام والثقافة والفنون، طـ 1، 2018، عدد الصفحات: 73.