كتاب > الكتب العلمية

مراجعة كتاب (منطق ابن خلدون): هل بنى ابن خلدون عن طريق الهدم؟

علي الوردي (1913 - 1995) هو عالم اجتماع عراقي، له مؤلفات وبحوث عديدة أهمها (لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث)، والذي صدر في ستة مجلدات، وقد تناول فيه تاريخ العراق الحديث منذ بداية العهد العثماني حتى بدايات القرن العشرين.

وتميز الدكتور (علي الوردي) بالجرأة والموضوعية في أطروحاته وآرائه الاجتماعية، بالإضافة إلى أنَّ تأثره في منهج ابن خلدون في علم الاجتماع قد جعله يواجه كثيرًا من الانتقادات اللاذعة لخروجه عن المناهج السائدة في علم الاجتماع آنذاك.

ويدرس الدكتور (علي الوردي) في كتاب (منطق ابن خلدون في ضوء حضارته وشخصيته) العوامل الفكرية وغير الفكرية التي تأثر فيها ابن خلدون كافةً، بالإضافة إلى محاولته استخلاص المنطق الذي اتَّبعه ابن خلدون في بناء نظريته. 

وابن خلدون (1332 - 1406م) هو مؤسس علم العمران، أو ما عُرِف بعلم الاجتماع لاحقًا، واشتهر بــ(مقدمة ابن خلدون) وهي الجزء الأول من مؤلَّفٍ في سبعة مجلدات وضع فيها آراءه في الجغرافيا والعمران وأحوال البشر وطبائعهم.  

"ويأتي ابن خلدون فيقول إن هناك من العلوم ما يخضع لمنطق أرسطو الهندسة والحساب وما أشبه، ومنها ما لا يخضع له كعلم الاجتماع.. إن الحسّ عند ابن خلدون أصدق من القياس المنطقي والتجريد العقلي في فهم الأمور الاجتماعية."

وينطلق (علي الوردي) في القسم الأول ليشرح بعض خصائص المنطق -الذي وضعه أرسطو- ومبادئه، مناقشًا تأثيره في نمط التفكير في العصر الذي عاش فيه ابن خلدون.

فإحدى الصفات الأساسية لهذا المنطق أنَّه منطقٌ استنباطي؛ والاستنباط هو الانطلاق من مقدمات عامة مُتَّفق على صحتها للوصول إلى نتائج جزئية خاصة تُبنى عليها، ولكنَّ تأثير القياس المنطقي -وهو أحد أهم طرق الاستنباط- لم يكن إيجابيًّا بالمطلق حسب (الوردي)، فقد أصبح سلاحًا يستخدمه كل صاحب رأي ليدل على صحة رأيه، ومن الأمثلة الواضحة على ذلك: الاختلافات ما بين المذاهب الإسلامية.

"مما يلفت النظر أن القياس المنطقي أصبح في القرون الوسطى مطيّةً في سبيل الأهواء الخاصة والعقائد المذهبية. فكل من يريد أن يبرهن على صحة مذهب أو رأي معين فليس عليه إلا أن يبحث عن مقدمة كبرى تصلح لاستنباط الرأي أو المذهب منها. وليس من العسير عليه أن يعثر على تلك المقدمة من أقوال الحكماء أو الأمثال الشائعة أو المأثورات الدينية أو غيرها... ولهذا وجدنا أن كل فرقة من الفرق من المتنازعة تأخذ من الأحاديث النبوية الجانب الذي يلائم مقاصدها وينسجم مع النتيجة التي تريدها."

ويعرض (الوردي) عدة أقوال لابن خلدون وآرائه، ويحاول تفنيد المنطق الأرسطي بها، ثم ينتقل بعدها ليناقش صُلْب نظرية ابن خلدون إن كانت سائرةً على مبادئ المنطق الأرسطي أم مخالفةً لها.

ويوضح (الوردي) سريعًا ثلاثة آراء في شأن محور نظرية ابن خلدون؛ إذ إنَّ العلماء قد اختلفوا في تحديده.

ففي حين يرى الأستاذ (ساطع الحصري) أنَّ "العصبية" هي المحور الذي تدور في فلكه البحوث الاجتماعية في مقدمة ابن خلدون، يرى الدكتور (طه حسين) أنَّ موضوع النظرية الأساس هو "الدولة"، ويختلف الدكتور (علي الوردي) مع كليهما، ففي رأيه أنَّ موضوعها الأساس هو "البداوة والحضارة والصراع فيما بينهما".

وينطلق الدكتور (الوردي) من رأيه ليثبت أنَّ نظرية ابن خلدون قائمة على نَقْض عدة قوانين من المنطق الأرسطي داعمًا رأيه بأمثلة كثيرة.

ففي دراسته لأخلاق البدو -على سبيل المثال- يذكر ابن خلدون لهم صفات متناقضة تجمع الحُسن والقبح معًا، وفي ذلك مخالفةٌ صريحة لــ(قانون عدم التناقض) الذي يقول بأنَّ النقيضين لا يجتمعان؛ فمن جهة، يميل البدو إلى النهب والتخريب والتوحش مبتعدين أشد البعد عن العلم والفن والصناعة، ولكنَّهم من أكثر الناس شجاعةً وشهامة وابتعادًا عن الترف والابتذال من جهة أخرى.

"لقد اعترف ابن خلدون غير مرة بأن المنطق القديم له فائدة للمفكر، إذ هو يجعله بارعاً في ترتيب الأدلة والحجج، ولكن ابن خلدون يعود فيقول بأن المنطق القديم لا يطابق الحياة الواقعية، وأن الواجب يقضي على من يريد أن يفهم الحياة الواقعية أن ينظر فيها حسب منطق آخر."

وفي القسم الثاني من الكتاب، يعرِّج الدكتور على العوامل اللافكرية التي ساهمت في وضع ابن خلدون لنظريته؛ إذ إنَّ العلم الحديث لم يَعُد يقبل بالعبقرية وحدها لتفسير الطفرات الفكرية كطفرة ابن خلدون، بل يسعى إلى التفتيش عن عوامل خارجية تمكِّنها من الظهور، ويعدِّد الدكتور عدة عوامل، فمنها ما هو نفسي واجتماعي، ومنها ما هو مرتبط بشخصية ابن خلدون نفسها وعائلته، إضافةً إلى المجتمع الذي نشأ فيه.

إنَّ كتاب (منطق ابن خلدون) يسلط الضوء على شخصية عربية مهمة ومؤثرة، أبدعت في مجال دراسة المجتمع عن طريق منطق استقرائي يعتمد على التجربة لا على الحقائق المجردة، وبأسلوبه المميز وطريقته المبسطة يُدخلك (الوردي) إلى عالَم ابن خلدون دون أن تكون في حاجة إلى قراءةٍ مُسبقة عنه، بل قد تشكِّل قراءتك لهذا الكتاب دافعًا لك كي تتعمق في هذه الشخصية وآثارها أكثر فأكثر. 

معلومات الكتاب:

الوردي، علي. منطق ابن خلدون. دار ومكتبة دجلة الفرات. عدد الصفحات: 288.