كتاب > روايات ومقالات

مراجعة رواية (عمارة يعقوبيان): حجارةُ يعقوبيان تؤرِّخ حقبة زمنية

يمكنكم الاستماع إلى العمل عبر الرابط:

الكاتب (علاء الأسواني) من مواليد 1957 القاهرة-مصر، وهو حاصل على ماجستير في طب الأسنان من جامعة إلينوي في ولاية شيكاجو في الولايات المتحدة الأمريكية، وقد صدرت له عدة أعمال أدبية أبرزها رواية (شيكاجو)، و(عمارة يعقوبيان)، و(نادي السيارات)، وقد نال عدة جوائز عن مسيرته الأدبية، ومن أهم تلك الجوائز جائزة فريدريش روكيرت في ألمانيا سنة 2008، وهو أول أديب يحصل على الجائزة في العالم؛ إذ إنَّها نُظِّمت لأول مرة في ذلك العام، وهو أول مصري يحصل على جائزة برونو كريسكي من النمسا سنة 2008، وجائزة جرينزاني كافور للرواية في تورينو-إيطاليا، وهي (أكبر جائزة إيطالية للأدب المترجم) سنة2007، وكثيرًا من الجوائز  في كلا المجالين؛ الأدب والطب.

وتزخر رواية "عمارة يعقوبيان" بشخصيات غير متجانسة في ذاتها، ولكنَّ الجامع الوحيد لها هو هذه العمارة، وللإبداع المُلفت لدى الكاتب في تصوير الواقع المصري في تلك الفترة، والأهمية التي خرج بها هذا العمل الأدبي حُوِّلت رواية (عمارة يعقوبيان) إلى عمل سينمائي يحمل الاسم نفسه، ولكن؛ يبقى وَقْع الكلمة في نفس القارئ أعمق من أيِّ عمل سينمائي أو تلفزيوني بالنسبة إلى المشاهد، فقد صوَّر الكاتب مكونات المجتمع المصري جميعها بتناقضاته كلها، وبطَرْح لا يخلو من الجرأة في عدة مواضع جدلية وحساسة؛ مثل طرح المثلية الجنسية كونها قضية حقوقية، وطريقةِ تعاطي المجتمع المحافظ معها، ويمدُّ الكاتب (علاء الأسواني) طرحه إلى تفاصيل عدة؛ مثل الحانات التي يقصدها المثليون أو من يريد قضاء ليلة مع أحدهم، و للإستفاضة أتى بشخصية(حاتم رشيد)؛ الصحفي مثلي الجنس، والذي يتقن عدة لغات ولديه مكتب صحفي يطبع لأهم الصحف العالمية، وهو الابن الوحيد لزواج مختلط لإمرأة فرنسية ورجل مصري، وقد عاش طفولته في أحضان المربيات والخدم وكان يحمل حقدًا دفينًا تجاه والديه، ويعدُّهما المسؤولين عن توجهه الجنسي المختلف، فهو ناجح على الصعيد المهني ولكنَّ حياته الجنسية غير المستقرة سبَّبت له مشكلات عديدة.

ثم يتطرَّق الكاتب إلى أخطر ما أنتجته تلك الفترة وهو "تنظيم الإخوان المسلمين" عن طريق الشاب الطموح (طه) الذي كان يحلم بالدخول إلى كلية الشرطة، ولكنَّ الحظ العاثر منعه من ذلك، فدخل إلى الجامعة، وعندما شعر بالفارق الطبقي بين مرتادي الكلية، انزوى في البداية مع الفقراء أمثاله إلى أن حان موعد الصلاة واصطاده هناك الإخوان المسلمون، ومن ثمَّ انضم إلى التنظيم، وكان التغير الذي طرأ على شخصه جليًّا، فقد كان الشاب الذي يحب الجميع ويحترمهم على السواء على الرغم من إساءة بعضهم لكونه ابن حارس العمارة، ولكنَّه أصبح حاد الطباع لا يتهاون في معاملة الناس على مدى التزامهم الديني، ولم يغفل الكاتب الولوج إلى أقبية الأفرع الأمنية التي كانت تلاحق أفراد التنظيم في محاولة للقضاء عليه.

أما الصبية (بثينة) التي أنهت دراستها الثانوية واضطرت إلى الدخول إلى سوق العمل بعد وفاة والدها، كانت ما تزال تعتقد بالخير المطلق والفضيلة الدائمة على الرغم من الشرِّ المتفشي من حولها،  ولكنَّها جسدت الإغراء دون أن تعي ذلك بردفيها الممتلئين وصدرها المكتنز وشعرها الأسود المنسدل، والبشرة البيضاء والوجنتين الورديتين؛ ممَّا جعلها تتعرض إلى كثير من محاولات التحرش من أرباب العمل الذين تنقلت بينهم هاربة من نظراتهم المتحرشة، ولكن؛ عندما علمت بأنَّ هذه هي الحالة الطبيعية وهي ستبقى الخاسرة أمامهم دومًا في مجتمعٍ فقدَ الخير والفضيلة، وعليها أن تخضع لرغباتهم دون المساس بعذريتها،  تغير لون الحياة في عينيها بانكشاف وجه هذا الواقع المحاصرة به، فأصبح الذل والهوان ملازمان لها على الدوام.

ثمَّ نصل إلى حكاية (زكي الدسوقي)؛ العجوز ذي الخمسة وستين عامًا، والذي وصل إلى أرذل العمر وهو لا يعرف لم وصل به الحال إلى ما هو عليه، فهو مهندس ينتمي إلى عائلة أرستقراطية، وقد وُلِد ودرس الهندسة في باريس ثمَّ عاد مع عائلته إلى مصر وبدأ عمله في المكتب الهندسي في العمارة والذي يعود إلى والده، ولكن؛ عقب أحداث الثورة المصرية وانخراط والده في العمل السياسي مع بعض القيادات تسبب ذلك بوابل من الخراب لحق بالعائلة، ولكنَّ الدسوقي لم يعد إلى باريس كما فعل كثيرٌ من أترابه، فابتعد عن أعباء العمل المضني ليكمل حياته بين أحضان النساء واستحق لقب دنجوان بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، وكان يتختل مفاخرًا بكثرة العلاقات التي مر بها، ولكنَّه لم يكن يعدُّ علاقته بالمرأة تفريغًا للرغبة فحسب، بل إنَّها تحمل قدسية ولذة مميزة، حتى مرَّ الزمن وأصبحَ عجوزًا وحيدًا يدفن همومه كل مساء بين قوارير الويسكي، ليغفو منهكًا ثملًا حزينًا.

أما (الحاج عزام) وهو رجل ستيني، فثمَّة قصص كثيرة في الخفاء تدور حول ثرائه المفاجئ، فقد أتى لأول مرة شابًا صغيرًا من أحد الأرياف الفقيرة ليعمل ماسحًا لأحذية المارة مقابل العمارة، ثمَّ غاب مدة عشرين عام وعاد من أصحاب الممتلكات والعقارات، وهو اليوم شخصية ذات نفوذ وعلاقات جعلت طموحه يتزايد إلى مزيد من السطوة، وهو لم يكن من ساكني العمارة، ولكنَّ تأجُّجَ رغبة جنسية متأخرة لم تحتملها زوجته المُسنة جعلته يرتبط بالعمارة بعلاقة لا تخلو من الأنانية والريبة.

إنَّ الكاتب يسبغ على رواياته لمسه سوداوية تتوضَّح في خواتيم الأحداث بأسلوب شيطاني خبيث من المستوى الرفيع، فبعد أن يغوي القارئ بتطور إيجابي للأحداث وكأنَّه ملاك حارس لشخصيات الرواية، لا يلبث أن يظهر وجهه الحقيقي البشع ويُعمِل خناجره في خاصرة تلك شخصيات إلى أن يصل نَصْلها المسموم إلى القارئ.

ومن جهة أخرى، تتميز الرواية بلغة متقنة وسرد متسارع للأحداث؛ ممَّا يزيد من متعة التشويق، وعلى الرغم من استخدامه اللهجة المصرية المحكيَّة للحوارات ولكنَّها لم تُضعِف الرواية من حيث المضمون والسرد، فالحوارات كانت مقتضبة ومنسجمة مع سياق الرواية، بل إنَّها أضفت لمسةً مميزة لتقرِّب القارئ من المدينة التي وقعت فيها أحداث الرواية.

معلومات الكتاب:

الأسواني، علاء. (2003). عمارة يعقوبيان. مكتبة مدبولي (الطبعة الرابعة). عدد الصفحات: 363.