كتاب > روايات ومقالات

مراجعة رواية (الفراشة): أمام اليقين بالنصر؛ حتى الموت يقف عاجزاً

في عمر الخامسة والعشرين حُكِم على (بابيلون) -ظلمًا- بعقوبة السجن المؤبد مع النفي لجُرمٍ لم يقترفه قط.

وبسبب مُدَّعي عام جائر وشاهِد زور بات لزامًا عليه أن يقضي بقية سنين عمره منفيًّا في جزر (غوايان) الفرنسية.

وكان المعكسر التدريبي في (غوايان) يتألف من ثلاث جزر: (سانت جوزيف) و(رويال) و(جزيرة الشيطان)، ويُرسَل السجين إلى واحدةٍ منها بحسب نوع جُرمه.

ومنذ اللحظة التي وطأت فيها قدماه أرض الجزيرة، أدرك (بابي) -كما اعتاد زملاؤه تسميته- أنَّ الحياة لن تكون بعد هذا اليوم إلا قطعةً من الجحيم، وتعمَّق هذا اليقين بعد سماعه الخطابَ الذي استقبلت به إدارة السجن المساجين؛ إذ حُذِّر في الخطاب من أيَّة مخالفة أو تمرُّد، وتوعَّد الضابط المسؤول بمحكومية السجنِ الانفرادي مدة سنتين جزاء محاولةِ الهروب الأولى لأيِّ شخص، وزيادتها خمس سنوات في حال محاولة ثانية مع التشديد على أنَّ عقوبة الإعدام هي مصير كل من يُقدم على القتل على أرض هذا المعسكر.

وقد كان هذا الخطاب تأكيدًا على أنَّ حياة أيَّ سجين لا تساوي أدنى قيمة؛ إذ إنَّ الإبقاء على السجناء - في نظر إدارة المعسكر- ليس له  فائدة مرجوة، وكذلك فإنَّ القضاء عليهم لا يُعدُّ خسارة.

وعلى الرغم من  تلك التحذيرات كلها لم يكف (بابي) عن التفكير في الهروب، وبدأ بدراسة خطة مُحكمة يواجه بها  المخاطر المحتملة كلها بدءًا من كيفية التخلُّص من مراقبة الحرَّاس، حتى تجهيز قارب مُحكم بمؤونة كافية، ووصولًا إلى اختيار أرض لتكون مستقرًّا بعد الهروب شريطة أن تكون غير ملزمة بتسليم السجناء إلى فرنسا، وعدا عن تفاصيل الخطة كلها  كان على (بابي) إحسان اختيار شركائه في الهروب.

وهكذا، وبكثيرٍ من الحنكة والدهاء وبتوفير ما يلزم من نقود، نجحت محاولته الأولى للهروب برفقة صديقيه.

ولم يكن الإبحار سهلًا وقد كابدوا في خضم البحر كثيرًا من التحديات متمثِّلة بأسماك القرش والعواصف الهوجاء والأمطار وأشعة الشمس اللاذعة التي تودي بالعيون حدَّ القرح، ولكنَّهم وصلوا إلى بر الأمان أخيرًا؛ إذ استقبلهم جمعٌ من الناس بترحاب مقدرين شجاعتهم في الإبحار والهروب، ولكنَّ فرحهم لم تدم طويلًا،  فقد كانت الإقامة الدائمة للهاربين من المحظورات في هذه المنطقة؛ ولهذا، كان لِزامًا عليهم الترحال من جديد.

وبخطأٍ فادح يقع (بابي) ورفيقاه في الأسر من جديد ليعاود محاولة الهروب مجددًا، وقد كان الحظ حليفه مرةً ثانية، وكان هروبه هذا سببًا للتعرف إلى قبيلة (الكاجيرا) البدائية، فلبث في ضيافتهم زمنًا ليس بقليل، وبات يحس بالانتماء إليهم وبأنَّهم عشيرته، ولكنَّ إصراره على الانتقام ممَّن كان سببًا في سجنه كان دافعًا للرحيل من جديد؛ الرحيل الذي ندم عليه بعد ذلك أيما ندم، فقد وقع على إثره في الأسر مجددًا.

وكان عليه لقاء هروبه أن يقضي سنتين من السجن الإفرادي في الزنزانات "آكلة الرجال"، فهكذا كانت تُدعى، ولم تكن تسميتها بهذا الاسم إلا وصفًا دقيقًا لما هي عليه.

وفي هذا السجن الجديد كان على (بابي) أن يمضي عامين من الصمت المُطبق، فالكلام مُحرَّم والغذاء قليل والزنزانات مظلمةٌ تملؤها الحشرات، وقلَّما يخرج رجل من هذا السجن بقواه العقلية الكاملة.

لذا، كان عليه وضع خطة للصمود، وكانت خطته تتمثَّل في إبعاد فكرة الانتقام الملحَّة؛ كي لا يُصاب بالجنون، ووجب عليه التفكير بإيجابية عوضًا عن ذلك، ونظَّم وقته أيضًا،  فكان يمضي ساعات عدة من المشي في حيِّز زنزانته الضيق للخروج بأعلى مستوى لياقة بدنية ممكن. 

وعند خروجه من الإفرادي، رُحِّل إلى جزيرة أخرى، ويصف لنا الحياة فيها مصوِّرًا مجتمعًا كاملًا مصغَّرًا من تجار وأطباء ونجارين ولاعبي ميسر..إلخ، وكلهم من السجناء، وهم يختلفون في جنسياتهم وشخصياتهم، ولكنَّهم يتفقون في مبادئ أساسية؛ كالوفاء بالعهد وعدم الوشي بالأصدقاء ونبذ كل من يخالف هذه المبادئ.

وعلى الرغم  من تأقلم عديدٍ منهم في هذه الحياة لكنَّه لم يستطع الشعور بالانتماء أو الاقتناع بفكرة أنَّه سيمضي ما تبقى من عمره في هذا المنفى يومًا، وكان القائمون على المعسكر من ضباط وأطباء على علم بما يفكر فيه، ولكنَّهم -وأمام هذه الشجاعة- لم يستطيعوا أن يكنُّوا لهذا الرجل؛ "رجل الهروب" سوى الاحترام المطلق.

وتضاف إلى القائمة محاولات عديدة أخرى للهروب نفَّذها (بابي)، ومُني فيها بشهور من الحرية ليعاود الوقوع في الأسر ثم يعود مجددًا إلى الهروب، فقد كان يُفضل الموت غرقًا في البحر أو بين فكي قرش في أثناء هروبه على أن يعيش ذليلًا في منفاه، ويقول: "النصر أو الموت، كلمة الموت هذه يجب أن استبعدها ولا أفكر سوى في النصر مع الحرية"،  وقد ظفر بمراده بعد سنين عديدة ومعاناة طويلة أخيرًا.

إنَّ (شاريير)  يُناقش عن طريق مذكراته ضرورةَ إعادة النظر في عقوبة النفي، مؤكدًا على أنَّ الشخص -وإن كان قد ارتكب جُرمًا- إذا أوليَ الثقة وأُعطيَ الفرصة لمحو ماضيه ورسم مستقبل جديد فإنَّه سيكون على قدر هذه الثقة غالبًا، وسيختار العيش حرًّا شريفًا تكريمًا للفرصة التي أُعطيت إليه من جديد.

وقد جُسِّدت هذه القصة في فيلم Papillon، وعلى رغم مدة الفيلم التي تجاوزت الساعتين، لكنَّ أحداث القصة كانت أكبر من أن تُجسَّد في مدة زمنية محدودة وإن كانت بالساعات، إضافةً إلى أنَّه عوضًا عن الخوض في وصف ملابسات كل هروب على حدة، جُمِّعت تفاصيل من عدة محاولات وعُرِضت في محاولتين فحسب.

وركَّز الفيلم تركيزًا كبيرًا على علاقة الصداقة المتينة بين (بابي) و(لويس ديغا) دونًا عن بقية الأصدقاء، وكذلك أظهر الجانب الهمجي من معاملة الحرَّاس والضباط للمساجين، وسوء معاملة المساجين فيما بينهم أيضًا.

أما في الرواية وإن كان (شاريير) قد ذكر  تلك السلبيات كلها، ولكنه لم يُغفل إظهار الجانب الإنساني والاحترام الذي يكنُّه له أغلب من عرفه، وسَعْي عديدٍ من أصدقائه إلى حمايته ومساعدته وإن أودى بهم ذلك إلى الموت.

وفي الرواية درس عميق عن الإصرار على الحياة واليقين بالأمل، ومشاعر عن الصداقة والحب، وعن الكره والانتقام، وعديد من التفاصيل والأحداث التي لا يسعنا الحديث عنها لكثرتها، ولا نستطيع الشعور بها إلا إذا جُبنا بين سطور هذه الملحمة الرائعة وكلماتها.

وبحسب الفيلم، فإنَّ الرواية سُميت باسم (الفراشة)، والذي  يكون معناه في اللغة الفرنسية "بابيلون" تيمُّنًا بوشم على صدر (شاريير)، فأطلق زملاؤه عليه الاسم؛ كوْن الفراشة في اللغة الفرنسية مذكَّرة لا مؤنثة.

ولا عجب أنَّ (الفراشة) حققت أكثر نسبة مبيعات في فرنسا، فقد بِيْع منها حتى يومنا أكثر من ١٣ مليون نسخة، وبثلاثين لغة مختلفة، وقد أثارت الرأي العام فيما يتعلق بالنفي إلى المعسكرات التأديبية،  فأصدر وزير العدالة الفرنسي عام ١٩٧٠ على إثرها عفوًا عن (هنري شاريير) سامحًا له بالعودة إلى فرنسا.

شاريير، هنري،الفراشة، صدرت النسخة العربية عن دار النشر:التنوير، عدد الصفحات:456 صفحة.