كتاب > روايات ومقالات

مراجعة رواية (عناقيد الغضب): الرضوخ أو الثورة

قد يتحول مجرى حياتنا من كونه مستقيمًا إلى أن يصبح دائريًّا ومغلقًا لنلتف حول أنفسنا وتغدو الأحداث اليومية متشابهةً، ونعود إلى نقطة البداية مرارًا وتكرارًا، فنبدأ بهذا سعينا إلى لقمة العيش التي اعتدنا الحصول عليها كونها حالة روتينية لتمضي أيامنا، مُفعمين أرواحنا بأمل الاندفاع خارج هذا الروتين والتوُّجه إلى الحياة الرغيدة، وفي طريقنا هذا نجد أنفسنا في مواجهة مباشرة مع قسوة القلق، بل بتصادم مع لحظات نلامس بها الفناء!

إنَّ هذا المحور الأساسي مطروح من الكاتب (جون شتاينيك) في روايته (عناقيد الغضب)، والتي استطاعت أن تبرز نفسها واحدةً من أفضل الروايات في الأدب الأمريكي والعالمي على حد سواء، مُشددًا على تسليطه المجرد الذي يخلو من أيِّة ملاطفة وهمية، ليصل بكتابه هذا إلى درجة عالية من المحاكاة الواقعية.

وبهذا، تبدأ القصة بمراحل متعددة ومتدرَّجة، فبدايتها كانت بحدوث تغيير كبير في مجرى حياة فلاحين اعتادوا على الحياة الريفية البسيطة، ولكن؛ سرعان ما وجدوا أنفسهم متورطين في مداخلات بنكية تجبرهم على التخلي عن أراضيهم الزراعية بعد موجات جفاف مستمرة، وفي أثناء نقاشات حادَّة مع رجال أعمال زاد تهديد الخسارة وسرعان ما سلبت منهم جل الممتلكات بأسعار بخسة، ولكنَّ أملًا كبيرًا يظهر فجأةً عن بلاد بعيدة ممتلئة ببساتين الفاكهة وما تيسر من هناء الحياة، لتبدأ بهذا موجات هجرة ضخمة إلى مقاطعة (كاليفورنيا) الأمريكية.

وهنا، وما بين مسافة السفر الشاسعة، تبدأ مشكلات جمَّة بالظهور؛ من معاناة مع قطع الغيار وصولًا إلى مشكلات تأمين الوقود والمسكن والطعام والمشرب وتضاؤل المال بتحدٍ جريء مع عجلة الزمن في طقس لا يسوده إلا الحر، ولكن؛ تتمكَّن العائلة من الوصول على الرغم من تلك الصعاب كلها، وهي العائلة التي كانت مكوَّنة من زوج من كبار السن وأم وأب، وأبناء ثلاثة كان أحدهم قد خرج حديثاً من السجن، بالإضافة إلى صهرٍ وحيد، ثمَّ تقلص عددها بشكل جلي، وهناك تبدأ قصة معاناة جديدة، لا سيما أنَّ أمل الحياة الرغيدة لم يكن إلا وهمًا، فالتأقلم في أرض جديدة تمارس العنصرية لن يكون بالأمر السهل.

إنَّها قصة عنوانها التنقُّل من مكان إلى آخر، والتدني في مستوى الحياة إلى أدنى مستوياتها في معسكرات تخييم يفتقر أغلبها إلى أدنى مقومات النظافة، بالإضافة إلى الحديث عن انعدام فرص العمل أمام مشكلة انتهاء المال، في سبيل حياة هانئة أخرى لا تدوم إلا بضعة أيام لغاية عمل لا يختلف في مضمونه عن العبودية كثيرًا.

فتتبدد معالم الأمل مجددًا أمام ظروف تزداد قسوة، لتصبح الأيام بطيئة بالمضي، ومع هذا تعود العائلة إلى نقطة الصفر وما قبلها، وتنقسم لأجزاء؛ فهنالك من تُوفي وهنالك من اختار الهروب ببساطة، ومع ازدياد قسوة وعنصرية التجار وملَّاك الأراضي في (كاليفورنيا) تجاه المهاجرين تتصاعد وتيرة الحقد لدى الجمهور، لتظهر تحرُّكات هدفها التغيير تودي بأصحابها إلى السجن أو الموت، والتي امتدت أثارها لتلامس ما تبقى من العائلة حتى.

إنَّه شعاع تغير يظهر، لتهبَّ في وجهه عواصف العنف والرفض كلها، ولا أحد يعلم بأنَّ لهذا الأمل فرصة نجاة أم لا؛ لأنَّهم على نقيض هذا يدركون بأنَّ الأمر يتطلب زمنًا قد لا يستطيعون بلوغه دون أن تودِّع أجسادهم سطح هذا العالم، حينما يموت طفل وينقذ في أثره شيخ.

هذه هي الرواية التي أثارت جدلًا كبيرًا في الوسط الأمريكي نظرًا لشفافيتها ومباشرتها دون أيِّ تحيُّز أو تضليل، مُتصفةً بعمق التحليل وغنى التفصيل، لتصبح ملحمةً تُجسِّد تجربةً إنسانية واقعية يشرح فيها مظاهر الأوضاع الاجتماعية كلها وعلاقتها بالأوضاع السياسية، وتشير إلى عوامل حدوث الثورات ومتى تحدث وكيف، وما ظروف الناس التي تقبع تحت وطأة هذه الأمور، وكيف يمكن للسلطة أن تحرض الشعب البسيط وتجزِّئه ليكون عدو ذاته، وكيف لتلك الأوضاع الصعبة أن تدفع الفلاحين إلى صنع أحلامٍ ثوريةٍ جديدة.

معلومات الكتاب:

شتاينبك، جون.عناقيد الغضب. المترجم:  سعد زهران. القاهرة: دار الشروق، 719 ص،ط1، 2008.