كتاب > روايات ومقالات

مراجعة كتاب (يوميات كاتب): مرور في أزقَّة الذاكرة الدوستويفسكية

يذكر الكاتب واسيني الأعرج: "بأنّ كتابة السيرة الذاتيّة هي فرصة قد تتاح مرّة واحدة لانتصار ذاتنا التي مرت عبر تجارب حياتيّة فيها من الجمال والجنون والقسوة واليأس ما يستدعي تدوينها، إنها محاولة انتساب إلى الحرِّيَّة والحبّ والنور"، ولكن؛ في سيرة ويوميات الأديب الروسي، والذي يُعد واحدًا من أهم الكُتَّاب في العالم (دوستويفسكي)، فهو يعطينا درسًا نموذجيًّا.

فإن (دوستويفسكي) شديد البهاء وكاتبٌ حسّاس حقًّا، فقد كان يملكُ قلمًا مُفعمًا بالمشاعر والرؤية العميقة للنفس البشرية؛ ممَّا يجعل من تجاربه القاسية والحزينة ومن التاريخ والسياسة والزراعة والصناعة عملًا إبداعيًّا ودرسًا في غاية الأهمية، وتكثر الأدلة على ذلك، فعند دخولنا في عالم (دوستويفسكي) عن طريق كتابه (يوميات كاتب)، سيروي لنا المترجم (عماد جاموس) في مقدمته:

"عندما دخلت مبنى (دار الكتب الموسكوفية) الضخم كان أقصى ما آمله هو العثور على عمل إبداعي حديث يعبّر عن روح العصر في روسيا، وفجأة لفت نظري عنوان كتاب ليس قديماً من حيث تاريخ الصدور، ولكنه قديم من حيث المضمون، وأيقنت على الفور بأنني مهما بحثت في أرجاء المكتبة الضخمة بطابقيها الواسعين لن أجد ما هو أكثر قيمة من هذا الكتاب وتأتي قيمته من أنه يجمع في مجلد واحد( صفحاتٍ مختارة) من (يوميات كاتب)."

بدأ دوستويفسكي في عام 1873 بنشر الفصول الأولى من (يوميات كاتب) في مجلة الأمير، وقد استمر من عام 1876 حتى عام 1881 مع انقطاع عامين انشغل في أثنائهما بكتابة رواية (الإخوة كارامازوف)، وبإصدار (يوميات كاتب) في مطبوعة مستقلة تصدر مرة في الشهر، وقد بيَّن الكاتب مسبقًا بأن اليوميات ستكون بالمعنى الحرفي للكلمة؛ أي أنَّها ستكون تقريرًا عن الانطباعات التي تكوَّنت لديه فعلًا في كل شهر تقريرًا عمَّا شاهده وسمِعه وقرأه؛ لذلك نلاحظ  أنَّ الكتاب  يحتوي على عدد كبير من العناوين مقسمةً ليكون كلٌّ منها في شهر مع تحديد السنة، فنراه يتحدث عن السياسة الداخلية والخارجية، والزراعة والتجارة والصناعة وتشويه اللغة الروسية، وظاهرة الانتحار في أوساط الشباب، ويمكن التعرف إلى أحكام يُطلقها على شخصيات وإبداعات كلٍّ من (بوشكين)؛ واحدٌ من أهم النقاد والشعراء الروس، والشاعر (نكراسوف)، والروائي (تولستوي).

ولذلك يرى كثيرٌ من المثقفين الروس أنَّ (يوميات كاتب) ليس مجرَّد كتاب عادي أو عمل مُرتب له فهرسته الخاصة، بل هو عمل بين صفحاته تنبسط أمام القارئ بانوراما تاريخية شديدة الاتساع، ولنأخذ على سبيل المثال هذا العنوان:

"عن حب الشعب. العقد ضروري مع الشعب " في شباط فبراير من عام 1876."

كتب دوستو في عدد كانون الثاني من اليوميات "إن شعبنا فظ وجاهل وأنه مستسلم للظلامية والفساد، وأنه همجي ينتظر النور."

ولكنَّ الكاتب كان قد قرأ لتوه -أي في شباط وبعد شهر من كتابته تلك الكلمات- مقالًا لخالد الذكر والمقرَّب من قلب كل روسي ، وهو الشاعر والفيلسوف (قسطنطين أكساكوف) في مجموعة (المساعدة الأخوية)، ويقول فيها: "الشعب الروسي متنوِّر ومتعلِّم منذ وقت طويل."

ولم يسبب هذا القول أي إزعاج أو إحراج للكاتب (دوستويفسكي)، فهو يشاطره هذا الرأي.

وقد يرى كثير من القراء لهذا الفصل أنَّ الكاتب قد أوقع نفسه في التناقض، ولكن؛ ليس من الضروري أن نصيب معنى الكاتب وقصده عن طريق ما فهمناه، بل إنَّ دوستويفسكي يعود ليوضح مقصده توضيحًا مُفصَّلًا عن طريق التوفيق بين قوله وقول قسطنطين، ويرشدنا الكاتب في هذا الموضع إلى أن نميز ونفرز في الإنسان الروسي المنتمي إلى الشعب البسيط جماله، ونميز ما فيه عن الهمجية الداخلة عليه، وكان قاصدًا بذلك سيرورة تاريخية مرَّ بها المواطن الروسي ربما طبعت وتداخلت إلى نفس الروسي بقوله "إن ظروف التاريخ الروسي بمجمله تقريباً قد دفعت شعبنا إلى استسلامه للفساد وعملت على انحلاله وإغوائه وتعذيبه باستمرار.

"لا تحكموا على الشعب الروسي انطلاقاً من تلك السفالات التي يرتكبها غالباً بل احكموا عليها انطلاقاً من تلك الأشياء المقدسة والعظيمة التي لا ينفك يتوق إليها حتى وهو يمارس الأفعال السافلة إن الشعب ليس كله من السفلة بل فيه قديسون حقيقيون."

ونلاحظ في هذه اليوميات التي جُمعت أنَّ العناوين في كثير من الأحيان مرتبطة ببعضهما البعض، فما كتبه (دوستويفسكي) في كانون الثاني (يناير) ردَّ عليه (قسطنيطن) في شباط والآن في شهر آذار (مارس) وتحت عنوان:

"أصحيحة الفكرة القائلة: الأفضل أن تكون المثل هي السيئة والواقع هو الجيد؟"

وقد ردَّ السيد (غاما) وكتب في صحيفة الصوت تعليقًا على ما كتبه (دوستويفسكي) في يوميات شباط عن الشعب: "أياً كان الأمر فإننا نصادف عند كاتب بعينه في غضون شهر واحد رأيين عن الشعب متناقضين تناقضاً صارخاً... يدعونا السيد دوستويفسكي إلى أن نحكم على الشعب لا على أساس ما هو عليه بل على أساس ما يرغب في أن يكون عليه فالشعب لو تعلمون هو في واقعه حثالة في غاية الفظاعة ولكن بالمقابل لديه مُثُل جيدة والسيد دوستو يعرف أن الإيمان من غير عمل جثة هامدة ولكن كيف أصبحت هذه المثل معروفة؟ أي نبي وأي عالم بالقلوب قادر على أن ينفذ إليها و يخمنها إذا كان الواقع يناقضها إن السيد دوستو يبرئ شعبنا بشكل بعيد عن الموعظة التي تقول: (الأفضل أن تكون المثل هي السيئة والواقع هو الجيد.)

ولكنَّ (دوستويفسكي) يرفض تلك المقولة ويؤكِّد بأنَّه من المستحيل تحقيق هذه الرغبة، فمن دون مُثُل؛ أي من دون رغبات معينة للوصول للأفضل لا يمكن الوصول إلى أي واقع جيد أبدًا.

وقد قصد دوستو بذلك أنَّ الحضارة تحتاج الرغبة بالتحضر، وتحتاج الدافع الإنساني الكامل المُتمثِّل برغبة للحصول على الأفضل وتحقيق ما هو جيد؛ أي أنَّ بروز الرغبة هي فعل أولي حتمي للتقدم، ولكن؛ هو في موضع كلامه ونظريته يحتاج إلى أُناس أفضل قادرين على الإلهام وتستجيب لهم البقية وذلك يتحقق في قوله:

 "فأفضل الناس هم أولئك الناس الذين من دونهم لا يعيش ولا يقوم أي مجتمع وأية أمة."

وفي هذه المقالات المختارة يرصد (دوستويفسكي) الجوانب الدقيقة في تطور الحياة الروسية جميعها، ويلامس السيرورة التاريخية لكل روسي أيضًا، وإنَّنا -دون إغفال أو تجاهل- نستطيع وضع كثير من الإسقاطات على واقعنا؛ لأنَّ الأفكار التي عبَّر عنها (دوستويفسكي) منذ أكثر من مئة سنة تفوق من حيث الجوهر والعمق كثيرًا من المشاركين في هذه المناقشات.

معلومات الكتاب:

دوستويفسكي. فيودور. يوميات كاتب؛ صفحات مختارة. جمعها: بوريس تارسوف. نقلها وترجمها: عدنان جاموس. القاهرة: أطلس للنشر والإنتاج الثقافي. ط1. 2017. عدد الصفحات:659.