كتاب > الكتب الأدبية والفكرية

مراجعة (النباهة والاستحمار) فلسفة الوعي

عندما تتحدث عن المفكر الإيراني الكبير (علي شريعتي)، فإنَّ أول ما يخطر لك هو كتابه النباهة والاستحمار، فهذا الكتاب المُجتمعي التوعَوي -كما هي كتب علي شريعتي الأخرى- يُعدُّ صرخةً مدويَّة في وجه الاستحمار باسم الدين على وجه الخصوص بما يتقاطع مع نقد لاذع لدعاة التعريب واستنساخ نظم التعليم الغربية، وتبنِّي الحريات المزيفة التي يروج لها الغرب.

وينطلق شريعتي بدايةً من التأكيد على أنَّ الإنسان صاحب قيمة في هذه الأرض، وعليه مسؤولية كبيرة في أن يعرف نفسه، وطاقاته، وإمكانياته جيدًا، وهذا ما سمَّاه شريعتي بالنباهة الإنسانية؛ التي تتجلى عظمتها -في نظره- بقدرة الإنسان على الرفض، ولا يقصد الكاتب هنا أن يقول الشخص لا بالمعنى الحرفي، وإنما أن يملك حرية الخيار، بل أكثر من ذلك، قدرته على التعبيرعن خياراته.

ولمَّا كان الإنسان واعيًا بدوره الإنساني ضمن المجتمع، حقق المفهوم الأهم وهو النباهة الاجتماعية تلقائيًّا.

وقد أشار شريعتي في كتابه إلى أنه وُجِدت على مر العقود مجموعات معينة كان هدفها الأساسي إلهاء الإنسان عن هدفه الحقيقي في الحياة وعن حقوقه المشروعة ومطالبه المُستحقة؛ لتتمكن من تسخيره وفقًا لمصالحها هي، وهذا ما سمَّاه الكاتب بالاستحمار.

ويتحقق إما عن طريق تزييف الدين وذلك باستغلال العاطفة الدينية أو عن طريق تزييف العلم والحقائق عن طريق تهميشها أو التقليل من أهميتها ، ويشير الكاتب هنا إلى نقطة مهمة جدًّا، وهي أن خطورة الاستحمار تتمثل بتفصيلِه على مقاس الأفراد، كلٌّ حسب ميوله، فيقول في هذا السياق: (إنه لمن سوء الحظ ألا ندرك ما يراد بنا فنُصرَف عما ينبغي أن نفكر فيه كأفراد ومجتمعات فيصيب غيرنا الهدف ونحن لا نشعر.

وقسَّم شريعتي الاستحمار إلى قسمين:

استحمار مباشر: وهو الأسلوب القديم المُتبع لإخضاع الشعوب، و يكون عن طريق نشر الجهل والفقر والاستبداد بالمجتمع، وهذا ما ينتج عنه سوق الشعب إلى الانحطاط.

أما النوع الآخر فهو الاستحمار غير المباشر: وهو النوع الأخطر ويكون عن طريق إلهاء الإنسان بحقوقه الجزئية لشغله عن حقوقه الجوهرية الكاملة، وذلك باختلاق حروب وهمية (كالصراعات الطائفية أو العرقية أو المذهبية، أو استغلال نزعة المرأة للتحرر بربط الوجه السلبي لصورتها النمطية بالموروث الثقافي، والاتهام الباطل للدين بأنه السبب في أوضاعها المزرية ضمن مجتمعها، بالإضافة إلى خطورة استقطاب نموذج التحرر على الطريقة الغربية بما لا يتناسب مع الوضع الراهن لمجتمعاتنا الشرقية) وهذا هو الأسلوب الرائج حاليًّا والذي تعتمده الحكومات الاستعمارية؛ إذ أنه يوفر عليها الخسائر البشرية والمادية.

أما عن القيم التي يحاول المستحمرون غرسَها في عقول المستحمَرين، فيقول شريعتي أنها وإن بدت جميلة وبرَّاقة ولكنَّها تحمل في طياتها كل شر وسوء، فالتخصص بعلم معين على حساب المعرفة الثقافية العامة، يفقدنا النباهة الاجتماعية؛

 كالدعوات إلى استقطاب القيم الاستهلاكية الغربية، والدعوات المستمرة إلى الحرية الفردية وتحرُّر المرأة، فهي وإن بدت أهداف نبيلة، ولكنَّ دورها الأهم يتمثَّل بشغلنا عن المسائل المهمة.

وتجدر الإشارة إلى أن شريعتي في كتبه الأخرى أكد على الدور الصحيح  والسليم والحر للفرد كثيرًا، ولم يغفل عن هذه الحقوق أبدًا، وإنما كان هدفه التنويه إلى أن هذه الأمور يجب ألا تشغلنا عن قضايانا الأهم، فهو القائل عن المرأة وللمرأة:

"كل واحدة منكن تمثل جوهرة إلهية تصدر عنها المحبة والعشق ولطافة الحياة."

وبالنهاية، استطاع شريعتي في كتابه هذا (النباهة والاستحمار) أن يرسم الخطوط الرئيسة لما تعاني منه مجتمعاتنا الشرقية من عوائق ترتبط معظمها باستراتيجية ممنهجة لتسيير هذه الشعوب انطلاقًا من استغلال نقاط ضعفها.

إنَّ هذا الكتاب لا يحمل دعوة للانغلاق على ذاتنا، وإنما مطالبة بوضع ضوابط واضحة للانفتاح على المجتمعات الغربية بما يتناسب مع الأعراف السائدة في مجتمعاتنا وتركيبتها الثقافية والدينية.

معلومات الكتاب: 

شريعتي، علي. النباهة والاستحمار. بيروت، الدار العالمية ،1984.

عدد الصفحات : 96