علم النفس > المنوعات وعلم النفس الحديث

ما بين الذاكرة والنسيان

لماذا يمكنك أن تتذكر اسمَ أفضل صديق في طفولتك لم تره منذ سنوات؟! في حين من السهل عليك أن تنسى اسمَ الشخص الذي التقيت به منذ قليل؟ أو بكلمات أخرى؛ لماذا تستقر بعض الذكريات وتأبى أن ترحل عقودًا طويلة في حين تتلاشى أخرى في غضون دقائق؟ 

من هذه الأسئلة بدأ بحثنا مُعدٍّا الذاكرة أمرًا أساسيًّا في السلوك البشري؛ إذ إنَّ أي ضعف في الذاكرة ينعكس -على نحو كبير- على حياتنا اليومية، ويمكننا أن نرى ذلك عند كبار السن الذين يفقدون جزءًا من ذاكرتهم إمَّا من أعراض الشيخوخة الطبيعية وإمَّا من أعراض مرض الزهايمر؛ إذ تبدأ الذكريات بالتلاشي مع التقدُّم في العمر ويعود ذلك للخلايا العصبية التي تقل -وهي المسؤولة عن حفظ الذكريات- فنجدهم يواجهون صعوبةً في تذكر أسماء الأشخاص أو غير قادرين على تذكُّر طريقَ العودة إلى منازلهم. ونتيجةً لذلك؛ أكدت عدة دراسات أنَّ إمكانية تعزيز الخلايا العصبية يساهم في منع فقدان الذاكرة. 

ولو عدنا إلى التاريخ لوجدنا محاولاتٍ كثيرة عمدوا إليها آنذاك ليتمكنوا من التحكُّم بذاكرتهم؛ إذ لا يوجد لديهم أيَّة وسيلة لحفظ المعلومات، فكانت الذاكرة عندهم بمنزلة المصدر والمرجع الوحيد المعتمَد عند العلماء وأصحاب المهن الفكرية، فكانوا يربطون الأحداث بمكان أو شيء مميز ليتمكنوا من تحفيز الذاكرة بسهولة أكبر.

وهناك نقطتان مضيئتان يجب التطرُّق إليهما:

 الأولى: علاقة الذاكرة بتكرار الحدث؛ فأثبتت الدراسات أنَّ تكرار ممارسة نشاط ما يزيد من عدد الخلايا التي تحفظ الأمر وبذلك يزيد من التذكر.

الثانية: علاقة الذاكرة بالنسيان، فنجد أنفسنا تارةً نودُّ أن نكون أصحابَ ذاكرة دقيقة وحاضرة تسترجع كلَّ معلومة نتلقاها من الحواس ونهاب مرضَ الزهايمر، وتارةً نلجأ إلى حضن النسيان لما نتلقَّاه في أثناء اليوم كي نبتعد قدر الإمكان عن تذكُّر عواطف سلبية أو حوادث ماضية مؤلمة.

هنا يزهو النسيان بنفسه كونه يحوِّل حياةَ كثيرٍ من الناس إلى منحى أفضل، ولكن من جهة ثانية، إنَّ اعتماد مبدأ النسيان بوصفه أسلوبَ حياة بات أشبهَ بمسلك صعب يتصدَّره بابٌ مقفول يكاد أن يكون ذا مفتاحٍ ضائع، بحيث كلَّما زادت الرغبة في نسيان شيء ما، زادت قوة الذاكرة!

إذًا؛ للذاكرة مشكلات، فما هي؟

١- الزوال السريع الذي يُعرف بزوال المعلومات والأحداث غير المكررة مع مرور الوقت، فعلى الرغم من عدِّ الزوال السريع علامةٍ مميزة لضعف الذاكرة، لكنَّ الباحثين عدُّوها إيجابيةً واضحة، فبزوال هذه المعلومات والأحداث يُفسح المجال لذكريات جديدة قد تكون أكثر فائدة. 

٢- الشرود الذي عُدَّ نوعًا من أنواع النسيان يحدث معنا كثيرًا حين لا نولي الأمرَ تركيزًا كافيًا (مثل نسيان المكان الذي وضعنا فيه القلم)؛ وذلك يعود لعدم إعطاء دماغنا فرصة لحفظ المكان على نحو كاف. 

٣- الحجب الذهني أو العجز المؤقت؛ كأنْ يسألك أحدهم سؤالًا ويقف الجواب على طرف لسانك ولكن من الصعب عليك استحضاره، وعلميًّا فُسِّر ذلك كما يأتي: في هذه الحالة يتمكَّن حاجزٌ من الوقوف بينك وبين ذاكرتك متمثِّلًا بذكريات مشابهة منافسة للذكريات الصحيحة، وذلك يبدو واضحًا عند كبار السن حين يخطئون بأسماء الأشخاص. 

٤- التحيُّز؛ إذ إنَّ الذاكرة تخضع عند حفظها لأفكارنا ومعتقداتنا وخبراتنا الشخصية، وكذلك عند استرجاعها.

٥- الإصرار الذي يتجلَّى في رغبة كثيرٍ من الأشخاص في نسيان ذكريات ماضية مؤلمة أو متعلقة بمشاعر سلبية تخلق مخاوفَ مستمرة. وأكثر الأشخاص المعرضين لذلك مرضى الاكتئاب والأشخاص المعرضين لاضطراب ما بعد الصدمة. 

أمَّا الأشخاص الذين يعانون النسيان؛ فلهم من مقالنا نصيب! فلنخاطبهم بأسئلة قد تكون الخطوة الأولى للحصول على سبب نسيانهم: 

أولًا: هل يترافق نسيانك مع تعبك الجسدي؟ فالتعب الجسدي يضعف الذاكرة. 

ثانيًا: ما الأدوية التي تتناولها؟ أثبتت الدراسات علاقةَ الأدوية المهدئة ومضادات الاكتئاب بالذاكرة. 

ثالثًا: هل تحصل على قسط كافٍ من النوم؟ فلا شك بعلاقة النوم بصفاء ذاكرتنا. 

رابعًا: ماذا عن حالتك النفسية؛ فهل أنت مرهق أو مكتئب؟ فلحالة المزاج أثرٌ كبير في قدرة أدمغتنا على التذكر والنسيان، أو اضطراب الذاكرة الذي كاد أن يكون العرضَ الشائع للاكتئاب. 

خامسًا: هل تشرب الكحول؟ للكحول انعكاسٌ كبير على النسيان؛ إذ يضعف الذاكرةَ مع التقدُّم في العمر. 

سادسًا: هل تمارس الرياضة؟ كثيرةٌ هي الدراسات التي صرَّحت بأنَّ للتمارين الرياضية أثرًا في تقليل النسيان كونها تزيد الترويةَ الدموية للقلب وبذلك للدماغ.

 ومن مخاض هذه الأفكار وُلد ما يُعرف بتحرير الذكريات أو حذفها، وهو: التدخُّل لإضعاف التأثير السلبي لذكريات ماضية أو لإزالة أثرها؛ وذلك عن طريق التدخل النفسي (بالعمل على كلِّ ما يتعلق بالذكرى) أو بيولوجيًّا (بالعلاج الدوائي).

وكان الدواء الذى شغل الأبحاث "البروبرانولول" كونه حاجبًا لمستقبلات بيتا التي تعمل على زيادة عمل القلب؛ إذ ارتبطت حالات الاضطراب العاطفي بإفراز هرمونات الإجهاد (الكورتيزول والإدرينالين) التي بدورها تزيد من عمل النوافل العصبية، وينعكس ذلك على الذاكرة بأن تُربَط الذكريات بحلقة الخوف، فتبدأ علامات القلق التي تتجلَّى بعضها في تسرُّع نبضات القلب أو التعرق أو الرجفة، لذلك وُجدت كثيرٌ من الدراسات الداعمة لاستخدام البروبرانولول عند وقوع حادث مؤلم؛ إذ ساعد كثيرًا على التخفيف من وطأته على الذاكرة.

وفي الختام، نتوجه لكلِّ قارئ مهتم: ما الذاكرة إلَّا جزءٌ لا يتجزأ من حياتنا اليومية، فما نحن عليه اليوم ليس سوى ما نحمله من أفكار جمعناها في أثناء سنوات عمرنا وذكريات أبت أن تفارقنا، آملين بمقالنا هذا أن نوصل تنبيهًا بسيطًا لأن نمنح أنفسنا راحةً كافية، ونتَّبع روتينًا منتظمًا بمرافقة دفتر صغير نكتب عليه مهماتنا اليومية، فنُبقي فكرنا باللحظة الحالية (الآن) مركزين بتفكيرنا على ما نعمل فقط دون تشتُّت، وبذلك نكون قد فلتنا من قبضة النسيان وبتنا نشعر بنعيم الذاكرة التي ستصبح مع الوقت مخزنًا مليئًا بتجاربنا، فدعونا نجرب ذلك معًا..

المصادر:

1- هنا

2- هنا

3- هنا

4- هنا