كتاب > الكتب الأدبية والفكرية

مراجعة كتاب (تقرير إلى غريكو): رحلة باتجاه الإطلالة الكريتية

بدأ (كازنتزاكيس) في كتابة مسيرته خريف عام 1956 بعد عودته من فيينا.

ويشمل محتوى هذه السيرة أهم الأحداث التي كان لها تأثير بليغ في حياة كازنتزاكيس وفِكره ومؤلفاته فيما بعد.

وكانت البداية في توجيه هذا التقرير إلى الجد الكريتي الموغل في القدم، ويتوضِّح ذلك في نهاية الكتاب، فالرسالة الموجَّهة إلى ذلك الكريتي قد بدأت في كريت وانتهت فيها، وهي الجزيرة التي كانت ترزح تحت نيران الاحتلال العثماني.

وكان أهم يوم في حياة الكاتب هو يوم إزالة المحتل وزيارة الأمير اليوناني إلى كريت وإعلانها جزيرة يونانية مستقلة.

وقد بزغ في مرحلة الشباب ذلك الحلم الذي يسيطر على المُفكِّرين في بداية حياتهم، وهو تغيير العالم من حولهم، وهذا دفعه ليشكِّل مع صديقيه تنظيمًا يرفعُ به شعار "العدل والمساواة والحرية"، وكان إيمانهم قويًّا بما يفعلون، ثم بدأ بالدراسة في كلية القانون، ولكنَّ (نيكوس) تجرَّع الهزيمة بكل جلادة وخاصةً بعد تخلِّي الأصدقاء عن الحلم الذي تبنوه سويًّا وانغماسهم في خضم الحياة من زواج وإنجاب وعمل.

وكان المسيح هو أولى الشخصيات التي تركت أثرها في (كازنتزاكيس)، فهو الذي أمضى مرحلة الطفولة غارقًا بين قصص الانبياء والقديسين والأيقونات الدينية، وهذا ما دفع (نيكوس) أن يتوجَّه للمرفأ في طفولته ليحقَّق أول طموحاته، وهو أن يصبح قسًّا، ولكنَّه واجه نوعًا من الصدمة بعد ما اكتشفه العلم فيما يتعلق بالنظرية الداروينية وأنَّ الأرض ليست مركز الكون، ومع أنَّ وقْع هذه الصدمة كان حادًّا عليه، ولكنَّها لم تجعله يرتبك كثيرًا، فقرر بعد انتهاء دراسته الجامعية أن يخوض رحلة البحث عن المسيح.

وقد مضى في تلك الرحلة التي بدأت بين جزر اليونان وأديرتها مع رفيقه، وقابل كثيرًا من الرهبان والقساوسة، وخاض نقاشات جدلية اختلفت ترانيمها من راهب باحث إلى آخر ما يزال تائهًا، ولكنَّ نيكوس لم يرتو، فصارت وجهته إلى فلسطين وبيت لحم وحيدا هذه المرة، وعندما لم يرتوَّ، فتوجه إلى جبل سيناء الذي تجلَّى فيه الرب للنبي موسى، فحلَّ ضيفًا للكنيسة هناك؛ لإيجاد الأجوبة عن كثير من الأسئلة التي كانت تدور في رأسه، فكانت الجنة المنعزلة عن العالم بتجلِّيات مختلفة.

أمَّا الشخصية الآتية فكانت شخصية الفيلسوف (فريدريك نيتشه)؛ الذي سمَّاه (نيكوس) بـ(الشهيد العظيم)، وذلك بعد سفره إلى باريس وبدأه في سبر عوالم نظرية العود الأبدي والخوض في فلسفة الإنسان الأعلى.

وانغمس في قراءة كتب نيتشه التي أغنته بعذابات جديدة وعلَّمته كيف يحول الفشل والمرارة والشك إلى كبرياء.

وكان للفيلسوف (هنري برغسون) نصيبٌ بأن يكون مُنقذ (نيكوس) وطريقَه إلى الخلاص من الإشكالات الفلسفية العديدة؛ التي حيرته وقضَّت مضجعه في تلك الأيام.

وكان على موعد -فيما بعد- مع مُخلِّصه ومُحرِّره الروحي الأخير، وهو (بوذا)؛ الذي وصفه (كازانتزاكيس) بأنَّه العين القاتمة عميقةُ الغور التي غرق العالم فيها ثم نجا.

وقد غرق (نيكوس) -حرفيًّا- في عالم بوذا عند سفره إلى فيينا إلى الحد الذي جعل روحه تنتقم من جسده أبشع انتقام، وذلك عندما سَمَت روحه إلى مراتب عليا أطفأت كثيرًا من ظمئه. وبعد فيينا، كان (كزانتزاكيس) على موعد مع برلين ومشاهدات الفقر والفاقة والجوع تنتشر بين الناس المشرَّدة على الطرقات وأرواحهم التي تُنازِع لغاية البقاء، وكان لا يزال تحت تأثير المعلم الروحي (بوذا)؛ فكان جسده ظمئًا، وفي طريقه إلى إحيائه وصلته دعوةٌ إلى موسكو؛ فتوجَّه إلى مكة الحمراء كما سمَّاها، فكانت جموع الناس أشبه بالحجاج إلى مَعلَم ديني ، ولكنَّه كان أكثر من ذلك، فكان حجًّا تحت راية "يا عمال العالم اتَّحدوا"، والتي رفعها (لينين) ومن بعده (ستالين) على امتداد الأراضي الروسية لنصرة البروليتاريا في العالم.

وبعد أن قرر الكاتب العودة إلى الوطن كان والده غاضبا لكثرة ترحاله وابتعاده عن عمله بدراسته وانشغاله بالكتابة التي وصفها بـ "تراهات"، لكن قراره كان الانغماس في حياة الشعب بعيدا عن الحياة التي اعتاد عليها، فذهب لاستثمار الأموال التي حصل عليها ليفتح مكتب وعمل مع رفيقهِ عوضا عن ذلك، واستأجر مجموعة من العمال للعمل في الأرض وقضى أياما لا تنسى معه، وكان ذلك هو زوربا الذي ترك أثر لا يمحى فأراد أن يعيد إحيائه ويخلده بعد موته بكتابة رائعته التي اشتهر بها "زوربا"، الذي علمه أن يحب الحياة، وأن لا يخاف من الموت، والذي فضله عن الكثيرين ممن مروا في حياته عندما كان خياره أن يكون دليله الروحي.

وعدَّ (كازنتزاكيس) درب الوصول إلى الرب هو الارتقاء؛ الذي يلخِّص جهوده جميعها وأسفاره وبحثه المضني الذي عبَّر عنه بقوله: "أيها القارئ ستجد في هذه الصفحات الأثر الأحمر الذي خلَّفته قطرات دمي".

فكان في أثناء حياته وكأنَّه يخط الإلياذة الخاصة به لشدة إعجابه بالإلياذة الخاصَّة بأجداده، والتي كانت ترافقه في جميع أسفاره.

وقد صُنِّف الكتاب تحت بند سيرة ذاتية، ولكنَّه في الحقيقة هو المسيرة الفكرية للكاتب؛ إذ عدَّ (كازانتزاكيس) أنَّ تقريره إلى (غريكو) هو ليس سيرة ذاتية، فحياته الشخصية تُعبِّر عن ملحمة فكرية وفلسفية أنتجت قيمةً أدبية وتصوفية بالغة.

ويُعدُّ هذا الكتاب بالنسبة إلى القارئ مدخلًا لدراسة شخصية (كزانتزاكيس) ومرجعًا قيِّمًا قبل البدء بقراءة أيٍّ من أعماله.

معلومات الكتاب:

المؤلف: نيكوس كازنتزاكيس. تقرير إلى غريكو.

ترجمة: ممدوح عدوان. دار دار الجندي، سوريا دمشق، 2004.

عدد الصفحات: 640.