التعليم واللغات > اللغويات

هي تقول وهو يقول

لماذا لا يُحب الرجال التوقف والسؤال عن الاتجاهات؟ طَرحت هذا السؤال أستاذة اللغويات في جامعة (جورج تاون) (ديبورا تانن) أول مرة في كتابها الصادر عام 1990 بعنوان You Just Don't Understand: Women and Men in Conversation، وربما حظي هذا السؤال باهتمام كبير وأكثر من أي موضوع آخر في هذا الكتاب؛ فقد ظهر على مناديل المشروبات بعبارة "الرجال الحقيقيون لا يسألون عن الاتجاهات" وكذلك أصبح موضوعًا أساسيًّا في العروض الكوميدية.

تفاجأت (تانن) بالاهتمام، فلم تكن تعلم مدى انتشار هذه التجربة ولكنها أدرجت سيناريوهًا بالأسئلة المُتعلقة بالاتجاهات، لأنها تُبلور الجوانب الرئيسة لهذه الظاهرة التي تَبيَّن فيما بعد أنها المسؤولة عن الكثير من الاحباطات التي يعانيها الرجال والنساء في أثناء حديثهم، وقد أمضت (تانن) أكثر من ثلاثة عقود في جمعِ الآلاف من الأمثلة وتحليلِها عن كيفية تفاعل النساء والرجال، واتضح أن الرجال يركزون في حديثهم على التسلسل الهرمي؛ أي فرض قوتهم في الحديث، في حين تميل النساء إلى التركيز على التواصل؛ أي القرب النسبي أو البُعد. وبعبارة أخرى قد ينتهي الرجال والنساء من نفس المحادثة بطرح أسئلة مختلفة؛ فهو يتساءل: هل وضعني هذا الحوار في مكانة عالية أم لا؟ في حين تتساءل هي: هل زادنا هذا الحوار قُربًا أم بُعدًا؟

ولكن تمهل! تعكس الحوارات والعلاقات مزيجًا من التسلسل الهرمي والتواصل، فأحدهما لا ينفي الآخر، بل هما يرتبطان ارتباطًا وثيقًا؛ إذ يتطلع الجميع إلى أن يكونوا أقوياء وأيضًا يريدون التواصل مع الآخرين، وقد واصلت (تانن) منذ نشر كتابها التحقيقَ في الفروق الدقيقة لطرائق الحوار بين النساء والرجال لتوضيح كيف تكون الأساليبُ الحوارية الخاصة بهم طرائقَ مختلفة لتحقيق الأهداف نفسها، ويستكشف عمل (تانن) الأخير السياقَ الذي يكون فيه تركيزُ النساء على الهرمية وتركيزُ الرجال على التواصل، وهو سياق الأسرة؛ إذ تُوفر الأخوات على وجه الخصوص نظرة ثاقبة للعلاقات بين النساء التي تتأثر تأثرًا عميقًا بالمنافسة وكذلك التواصل، إذًا ما علاقة أيٍّ من هذا بالسؤال عن الاتجاهات؟

 "أنا أعلى" مقابل "نحن متساوون"

أجرت (تانن) عديدًا من الأبحاث عن الاختلافات اللغوية في المحادثات بين النساء والرجال من خلفيات عرقية وإقليمية مختلفة، وغالبًا ما أدَّت هذه التفاعلات إلى سوء فهم وذلك لأن أعضاء كل مجموعة لديهم افتراضات متناقضة عمَّا ينبغي قوله والطريقة المناسبة لقوله، وأظهرت فيما بعد نمطًا متوازيًا في المحادثات بين النساء والرجال -وهو صراع ثقافي قائم على نوع الجنس.

وغالبًا ما تُوضِّح (تانن) هذه الظاهرة وتتعقبها باستخدام مقاطع فيديو للأطفال في مرحلة رياض الأطفال في مركز للرعاية اليومية، ففي أحد المشاهد يجلس أربعة أطفال معًا ويتحدثون عن مدى قدرتهم على ضرب الكرة نحو الأعلى، فبدأ أحد الأطفال برفع يده فوق رأسه وقال: "أنا حتى هنا"، ويستجيب طفل ثانِ مُشيرًا إلى أعلى من الطفل الأول: "أنا حتى السماء"، ويُعارض صبيٌّ ثالث قائلًا: "أنا حتى الجنة"، ثم تقدم الصبي الرابع وقال: "أنا حتى الله"، فمن الواضح أن هذا التبادل اللفظي لهؤلاء الصبية لعبةٌ من الهرمية؛ إذ إن ادعاء كل واحد يتفوق على الادعاء السابق.

وقارنت (تانن) هذا المقطع بمقطع آخر من المدرسة نفسها، ففي هذا المشهد تجلس فتاتان صغيرتان على طاولة صغيرة وترسمان، رفعت الفتاة الصغيرة رأسها فجأة ونظرت إلى الفتاة الأخرى -مشيرة فيما يبدو إلى العدسات اللاصقة- قائلة: "هل تعلمين أنَّ مُربيتي (آمبر) تضع أصلًا عدسات لاصقة؟ تبدو الفتاة الثانية في حيرة من أمرها ولكنها تتدارك الأمر بسرعة وتقول: "أمي تضع أصلًا عدسات لاصقة وأبي أيضًا!"، غمر الفرح الفتاة الأولى بسبب الاستجابة لسؤالها التي تطابقت حتى في بناء الجملة الذي استخدمته الفتاة الأولى، وبعد توقف مؤقت تَصيح الفتاة الأولى بسرور "الشيء نفسه؟!"؛ إذ إن كونهما متساويتين يُرضيها تمامًا مثلما يُرضي التفوقُ على الآخرين الأولادَ.

وعلى الرغم من أن أساليب المحادثة المُحددة ("أنا أعلى" مقابل "نحن متساوون") تختلف بعضها عن بعض، فإن المشترك بين هذه الحوارات المتناقضة هو الطقوس: افتراضات بديهية عن شكل الحوارات وما يجب أن يتبع عنها من ملاحظات وردَّات فعل، فكما هو الحال في التواصل بين الثقافات نحن لا نتعرف إليها على أنها طقوس حتى نتحدث إلى الآخرين الذين لا يشاركوننا افتراضاتنا.

يقول الأهل إن التعرُّف إلى هذه الأنماط التي تتعلق بنوع الجنس يساعدهم على التعامل مع سلوك أطفالهم المحير؛ إذ تُشير امرأة إلى سماع ثلاثة أولاد صغار -ابنها واثنان من أصدقائه- وهم يتحدثون في المقعد الخلفي في أثناء القيادة. قال أحد الأطفال: "عندما ذهبنا إلى (ديزني لاند) أقمنا ثلاثة أيام." وقال الصبي الثاني: "عندما ذهبنا إلى (ديزني لاند) أقمنا أربعة أيام." ثم قال ابنها: "سننتقل إلى (ديزني لاند)!" لقد كانت مضطربة لسماعها ينطق بكذبة واضحة، فهل تأمر ابنها بعدم الكذب؟ أكدت (تانن) للأم بأن الأولاد عرفوا أن أسرتها لن تنتقل إلى (ديزني لاند)، ولكن ابنها فاز بتلك الجولة.

ويُعبِّر أحد الآباء عن قلقه من موقف مُشابه، فقد سمع حوارًا بين ابنته الصغيرة وصديقتها تقول فيه الصديقة: "لدي أخ يُدعى (بنيامين) وأخ يُدعى (جوناثان)"، وأجابت ابنته "وأنا كذلك لدي أخ يُدعى (بنيامين) وأخ يُدعى (جوناثان)"، علمًا بأنه كلام ابنته لم يكن صحيحًا، وقد تساءل والدها لماذا كذبت هكذا؟ والسبب هو أن ابنته كانت تقدِّم ببساطة وضعًا متطابقًا انطلاقًا من حسن النية وذلك لتعزيز صداقتهما.

يسلط التركيزُ المتناقض على التواصل مقابل الهرمية في المحادثات الضوءَ على محادثات البالغين والاحباطات الناتجة عنها، مثل أنْ تُخبر امرأةٌ امرأةً أخرى عن مشكلتها الشخصية وتسمع ردًّا: "أعرف شعورك" أو "يحدث لي ذلك"، فالحديث الناتج عن المشكلات يُعزز العلاقة بينهما، وفي الواقع تعتقد بعض النساء أن الحفاظ على العلاقات الودية يبدأ باكتشاف المشكلات ومشاركتها مع الأصدقاء، ولأن هذا ليس من طقوس المحادثة التي اعتاد عليها الرجل، فربما يُخطئ في فهم محادثتها ويظن أنه طلبٌ للمساعدة في حل المشكلة، وتكون النتيجة فيما بعد إحباطًا متبادلًا؛ فهي تلومه على إخبارها ما يجب أن تفعله وعلى إخفاقه في توفير الراحة المُتوقعة، في حين يعتقد هو أنه فعل ما طلبته منه بالضبط ولا يُمكنه فهم سبب استمرارها في الحديث عن مشكلة ما إذا كانت لا تريد فعل شيء حيالها.

وتظهر سيناريوهات مماثلة لذلك في العمل، فقد يكون للتفسير الخاطئ المتبادل عواقبُ تؤدي إلى تغيير المهنة، على سبيل المثال: إذا سمع المدير امرأة تطلب من أحد المرؤوسين قائلة: "هل يمكن أن تسدي لي معروفًا بنسخ هذا التقرير؟" قد يعتقد المدير أنها تفتقر إلى الثقة، كذلك يبدو له أنها تشعر بأنها لا تملك الحق إذا طلبت من موظفيها فعل شيء ما، ولكن الحقيقة هي العكس تمامًا، فهي تعلم أن على الموظف التابع لها تنفيذ ما تطلبه منه، واستخدامها لعبارة "تسدي لي معروفًا" كانت ببساطة وسيلة لعدم التباهي بوضوح بالسلطة التي تتمتع بها، وبهذا تحفظ ماء وجه الموظف. وإذا كان الرجال يعزون أسلوب النساء غير المباشر إلى افتقار في الثقة أو حتى الكفاءة، فالنساء غالبًا يُسئن فهم الأسلوب الأقل لامباشرةً على أنه غطرسة وأيضًا إلى ضعف في الثقة، وتفكيرهن يكون: لا بد أنه يفتقر إلى الثقة إذا كان عليه أن يستخدم نفوذه هكذا.

وهذا يُعيدنا إلى موضوع المرأة والرجل في السيارة وافتراضاتهم المختلفة بخصوص السؤال عن الاتجاهات؛ فمن وجهة نظرها يستدعي السؤالُ عن الاتجاهات إجراءَ تواصل سريع مع شخص غريب والوصول إلى المكان الذي تُريد الذهاب إليه دون خسارة أي شيء، ومن وجهة نظره فهو يشعر بأنه يضع نفسه في موقف ضعيف مع شخص غريب وهو أمر غير مريح، بل يعتقد حتى أن الجهد المبذول يأتي بنتائج عكسية، لأن الشخص الغريب الذي لا يعرف الطريق سيكون لديه دافع مشابه وذلك بالإحجام عن الظهور بموضع ضعيف فيرسله إلى مكان غير مضمون، وللسببين كليها فمن المنطقي تجنب هذا الانزعاج وقضاء 10 دقائق -أو 20 أو 30 دقيقة- في العثور على الطريق بمفرده.

 أساليب مختلفة وأهداف مماثلة

على الرغم من هذه الاختلافات فإن أساليب الحوار بين النساء والرجال أكثر تشابهًا مما تبدو عليه، ويمكن استخدامها لأغراض مماثلة، فنجد الرجالَ والصبيةَ يهتمون بالتواصل، والنساءَ والفتياتِ بالسلطة، حتى وإن كانوا يتبعون أساليب مختلفة لتحقيق هذه الأهداف.

تتضمن الأساليبُ الكلامية التي تركز على التواصل غالبًا التأكيدَ على التشابه، مثلما رأينا في موقف الفتيات الصغيرات بشأن العدسات اللاصقة وفي الردود المألوفة "حدث ذلك معي" و"أنا على الحال نفسه"، وعلى النقيض من هذه الردود نجد عبارة مثل: "هذا لا شيء! إليكم ما حصل معي…" ترتبط عادةً بالرجال وتُفسَّر على أنها تنافس، ولكن بإمكانها أيضًا إنشاءُ تواصل بتأويلها إلى "يجب ألا تشعر بالسوء حيال ما حدث لك، لأن ما حدث لي كان أسوأ"، وبعبارة أخرى يمكن أن يكون "تفوق" أحدهما على الآخر وسيلة أخرى للمواساة.

وفيما يتعلق بالنساء والفتيات، ما يبدو من الخارج وسيلة للتواصل يمكن أن يكون أيضًا طريقة أخرى لممارسة السلطة، وقد بدأت اختصاصية اللغويات (إيمي شيلدون) من جامعة (مينيسوتا) بالتحقيق في هذه العملية عن طريق تصوير أطفال الروضة يلعبون في مجموعات مقسمة إلى ثلاثة أفراد من الجنس نفسه، ووجدت أن الصبيان والفتيات سعوا لتحقيق أهدافهم الخاصة، ولكن في حين أنَّ الأولاد الذين سجلتهم كانوا واضحين بخصوص إحباط أهداف الآخرين، كانت الفتيات غالبًا ما يفعلن ذلك بطرائق تبدو وكأنها تحترم أهداف الفتيات الأخريات أيضًا، ففي أحد الأمثلة لم ترغب الفتاتان (إيفا) و(كيلي) بأن تلعب معهن الفتاة الثالثة (تولا)، وبدلًا من إخبارها صراحةً بذلك فقد أعطوها دورًا يَحُول دون مشاركتها: "يمكن أن تكوني الأخ الرضيع، ولكنك لم تُولدي بعد"، وتؤكد (شيلدون) أن هذه الخطوة حازمة للغاية، حتى في الوقت الذي تحافظ فيه على مظهر رغبة (تولا) في أن تكون جزءًا من اللعبة.

وفي هذه الحالة لا يُعدُّ سلوك الأطفال تطبيقًا واضحًا للهرمية أو التواصل ولكنه مزيجٌ من الاثنين؛ إذ يمكننا أن نقول بأن (إيفا) و(كيلي) مارستا السلطة لمنع (تولا) من المشاركة، لكنهن احترمن أيضًا التواصل بإسناد دور لها، وفي المُقابل لاحظت (شيلدون) أنه عندما يلعب الأولاد، فإنهم يميلون إلى الإصرار على تحقيق أهدافهم بل حتى يلجؤون إلى استخدام القوة البدنية، مثال: عندما حاول الطفل (نيك) قطع قطعة بلاستيكية كانت مع طفل أخر، صرخ قائلًا: "يجب أن أقطعها! أريد أن أقطعها! إنها ملكي!" ومع ذلك تؤكد (شيلدون) أنه على الرغم من ميل الأولاد والبنات إلى استخدام إستراتيجية معينة أكثر من الأخرى، فالفرق لم يكن مُطلقًا بل نسبيًّا؛ ففي بعض الأحيان قدَّم الفتيان تنازلات للتسوية، ولجأت الفتيات إلى استخدام القوة الجسدية لتحقيق أهدافهن.

يُذكِّرنا بحث (شيلدون) بأن الأساليب مهما كانت حقيقية لا يمكن عدُّها مطلقة أبدًا، وبالعودة إلى السؤال عن الاتجاهات، تقول (تانن) لم أكن أدرك كم هو شائع هذا السيناريو لأن زوجي يتوقف ويسأل عن الاتجاهات، في حين أنني أنا الشخص الذي يقول: "أفضِّل أن أجدها بنفسي باستخدام الخريطة." وهذا يدل على أننا لسنا نمطيين، تمامًا كعديدٍ من الناس غير النمطيين في ثقافاتهم وانتماءاتهم.

إنَّ الفوارق بين الجنسين مسألةُ تركيز نسبي على التواصل والهرمية؛ إذ إننا جميعًا نريد تحقيق كلا الهدفين إلى حد ما، فالجميع يشارك في إجراء مفاوضات بخصوص التواصل والقوة النسبية، وقد حققت الطفلتان (إيفا) و(كيلي) كلا الهدفين عندما شملتا (تولا) ومنعتاها من المشاركة، وينطبق الأمر كذلك على الأولاد الذين تنافسوا شفهيًّا بخصوص مدى قدرتهم على ضرب الكرة، فقد خلقوا أيضًا اتصالًا بالاتفاق على نوع اللعبة اللفظية المراد لعبها، ومن أجل فهم الأساليب المتعلقة بالجنسين، بدلًا من أن نسأل "هل يخدم أسلوبُ التحدث هذا الهرميةَ أم التواصلَ؟" علينا أن نسأل "كيف يعكس أسلوب التحدث هذا التفاعلَ بين التواصل والهرمية؟" ولا يمكن استكشاف هذا التفاعل على نحو أفضل من استكشافه في السياق العالمي والأساسي على حد سواء، ألا وهو سياق الأسرة.

 

الروابط الأسرية

تنطوي الأسرة على هرمية داخلية وتواصل داخلي أيضًا، فنرى أن الهرمية تبدو بديهية بين أولياء الأمور وأطفالهم، ولكن الأمر ذاته ينطبق على الإخوة والأخوات، وعلى الرغم من استخدامنا لعباراتِ "مِثْلَ الأخوات" أو "مِثْلَ الإخوة" لوصف الصداقات الوثيقة والمتساوية، فإن علاقاتِ الإخوة والأخوات الفعلية محددةٌ ليس فقط عن طريق اتصال الأسرة المشتركة ولكن أيضًا عن طريق الهرمية في ترتيب ميلاد الأولاد، وتقول (تانن) بأن العلاقة بين النساء تكون أكثر تنافسية وهرمية.

في كتاب Having Our Say الأكثر مبيعًا عام 1993، نُقل عن (بيسي ديلاني) قولُها عن شقيقتها: "لا توافقني (سادي) أحيانًا، وتنظر إليَّ بطريقة الأخت الكبرى." وعندما قالت هذا، كانت (بيسي) في سن 101، وسادي في سن 103، وفي جزء آخر من الكتاب، تقول (سادي): "إذا عاشت (بيسي) حتى سن 130، فسوف يتعين عليَّ العيش إلى 132 حتى أتمكن من الاعتناء بها." لقد كانت علاقتهما تتشكل في السنتين اللتين تفصلان بينهما أكثر من القرن الذي عِشنه.

تعكس تعليقات هؤلاء المعمرات أساليب سمعت عنها (تانن) من بين أكثر من مئة امرأة أجرت معهن مقابلات بخصوص أخواتهن وذلك في كتابها You Were Always Mom's Favorite!: Sisters in Conversation Throughout Their Lives وكذلك التعليقات التي سمعتها عن الأشقاء، فكثيرًا ما يُنظر إلى الإخوة الأكبر سنًّا على أنهم حُماة ولكن انتقاديون أيضًا. هذه الصفات وجهان لعملة واحدة؛ فالانتقاد يعني أنك ترى كيف بإمكان الآخرين تطوير أنفسهم وحياتهم وأن تُخبرهم بذلك، إننا نُفكر في كثيرٍ من الأحيان في الطرائق الأفضل التي يمكن لأصدقائنا وأقربائنا وحتى الغرباء أن يتَّبعوها، لكننا عادة لا نخبرهم بما نفكر فيه -إلا إذا شعرنا بالمسؤولية نحوهم، وغالبًا ما يُطلق الأهل أحكامهم على الأبناء لأنهم يشعرون بأنه من حقهم، بل من واجبهم التأكد من أنَّ حياة أبنائهم تسير على ما يرام، ومما يعني لهم السماح بمعرفة الطرائق التي يمكنهم التحسن بها، ومع ذلك فمثل هذه النصائح بغض النظر عن مدى حسن النية -بمعنى أخر التركيز على التواصل- تُسمع عادةً على أنها نقد أو توبيخ، فالشخص الناصح أعلى من غيره لأنه يملك المعرفة، وبسبب ممارسة الحق في أن يقول للآخر ما ينبغي عمله، هو أيضًا أعلى رتبة.

وبالمثل، تتحدث عديد من الأخوات الأكبر سنًّا مع الأشقاء الأصغر منهن باستخدام سلطة قيادية وسلطة واضحة -وهي أساليب للتحدث غالبًا ما ترتبط بالأولاد والرجال. تقول إحدى النساء إنها عندما كانت صغيرة، كانت تلعب مع شقيقتها الكبيرة لعبةً تُدعى "الممسحة"؛ إذ كانت الأخت الكُبرى تُمسك بقدمي أختها الصغيرة وتجرها حول المنزل وشعرها مفرود على الأرض مثل الممسحة، وتستذكر عديد من النساء كيف كانت مسرحيات الطفولة من تنظيم أخواتهن الأكبر سنًّا؛ إذ تختار الأخت الكُبرى دور الأميرة وتُخبر أختها الصُغرى بأنها الضفدع، وعلى الصعيد الشخصي تقول (تانن) بأنها عندما كانت في سنِّ الأربع سنوات سمعها والدها تسأل أختها الكُبرى: "هل يُمكنني اللعب في الفناء الخلفي الخاص بكِ؟" فقد كان من الواضح أنها لم تتحدى السلطة التي كانت تتعامل بها أختها معها.

إن العلاقات المُتقاربة بين الأخوات تشبه الكأس المقدسة، فالعديد من النساء والفتيات يفضلن أن يكونوا قريبات من بعضهم، لذلك من الشائع التحدث عن مشكلاتهن وحلها، وتقول إحدى النساء إنها شعرت بالغضب عندما أخفت أختها عنها معلومات سرية، في حين أن الأخ أو الأب سيقول "أخبرني عندما تكون مستعدًّا"، فالأخوات مثل الأمهات غالبًا ما يقلن في هذه الحالة: "اعتقدت أننا أقرب من ذلك".

وغالبًا ما يصاحِب التنافسُ القوي علاقاتِ الأخوات، ولكنْ قد يخلق هذا النوع من التنافس شكل التواصل، وكثيرًا ما تشعر الأخوات بالتنافس على من تعرف ماذا عن أسرار الأسرة أو من تعرف شيئًا ما أولًا، وتقول إحدى النساء بأنها هي وأخواتها الثلاثة إذا علمت إحداهن بخبر شخصي مُهم مثل خبر خطوبة، يجب عليها إعداد مكالمة جماعية حتى تسمع جميع الأخوات بالخبر في الوقت ذاته، وذلك لأنه إذا اتصلت بواحدة قبل الأخريات فسيبدو وكأنها الأفضل وستشعر الأخريات بالتهميش.

ولذلك فغالبًا ما تكون الأخوات متنافسات للغاية، وتُبنى الهرمية في علاقتهن بحكم ترتيب الميلاد، وغالبًا ما يكون الأخوة قريبين جدًّا ويتمتعون بالتواصل في علاقتهم بحكم الأسرة المشتركة، ويميل الإخوة والأخوات إلى التنافس على الهيمنة في ساحات مختلفة؛ فقد تتنافس الأخوات على من يعرف أكثر عن أخبار الأسرة وأسرارها ويتنافس الإخوة على من يعرف المزيد من المعلومات غير الشخصية مثل أجهزة الكمبيوتر أو التاريخ.

وتوضح العلاقات الأسرية أن التقارب ليس عكسيًّا أو حتى يمكن تمييزه عن الهرمية والتنافس، وفي الواقع أحد الأسباب التي تجعل الأخوات الأكبر سنًّا يشعرن بالراحة في التحكم بأخواتهن الصغار وتقديم النصيحة لهن هو بالتحديد وجود علاقة قوية بينهن، وبالإضافة إلى ذلك فإن الحب العميق بين الأشقاء الأكبر والأصغر سنًّا، مثل الحب بين الوالدين والأطفال، ينتج جزئيًّا عن أعمال الرعاية والخبرة المكتسبة التي تنطوي عليها هذه الأدوار.

إن الاستماع إلى المحادثات بين أفراد الأسرة يكشف عن مزيج فريد من السلطة والألفة في الحديث بين النساء وكذلك بين الرجال، ويسلط الضوء على الكيفية التي يمكن أن تكون بها أساليبُ المحادثة بين الجنسين طرائقَ مختلفة لتحقيق الهدف نفسه، ألا وهو إيجاد التوازن الصحيح بين التقارب والتباعد مع التفاوض في الوقت ذاته على السلطة النسبية.

المصدر: 

هنا