الطبيعة والعلوم البيئية > ورقو الأخضر شهر أيلول

قطاع البناء في مواجهة التَّغير المناخي

في مطلع كلّ عام، يُصدر برنامج الأمم المتحدة للبيئة تقريرًا يوَّثق أوضاع استهلاك الطَّاقة، وانبعاثات غاز CO2، والسياسات والاستثمارات في قطاع البناء والتَّشييد على مستوى العالم.

كما يقدِّم بعض المقترحات وبرامج العمل؛ لتحسين هذه الأوضاع وجعل القطاع صديقًا للبيئة.

وفي هذا المقال سنستعرض أبرز نتائج التَّقرير وتوصياته.

أولًا: ما الوضع العالمي حاليًّا؟

يعدُّ قطاع البناء والتَّشييد مسؤولًا عما يقارب 36% من استعمالات الطَّاقة العالميَّة، و39% من الانبعاثات المرتبطة باستهلاك الطَّاقة، وفقًا لإحصائيات عام 2017، ورغم البدء بتحسين أنظمة البناء والتَّصميم منذ عام 2010، إلّا أنَّ هذه التَّحسينات ليست سريعة بما يكفي لتعويض النمو السكاني السريع وازدياد التَّوسع في الأراضي.

التَّوزيع العالمي لنسب استهلاك الطَّاقة والانبعاثات في قطاع البناء والتَّشييد عام 2017

ثانيًا: الاتفاقيات والمبادرات الدوليَّة.

1. اتفاق باريس للمناخ:

في عام 2015 بدأت مناقشات الدَّورة الخمسية الأولى (2015-2020) حول تغيّر المناخ في ما يعرف بـ "اتفاق باريس"، ودخلت حيّز التَّنفيذ في تشرين الثاني عام 2016، بمصادقة 55 دولةً مسؤولةً عن 55% من انبعاثات الغازات الدفيئة في العالم.

ومنذ ذلك الحين، صادقت مزيدٌ من الدول على الاتفاقيَّة وما زالت تصادق عليها، لتصل الآن إلى 185 من أصل 197 طرفًا مشاركًا حتى تاريخه.

تتطلب اتفاقية باريس للمناخ بذل أقصى الجهود من الدول المشاركة كافة، من خلال التزامات محددة لكل دولة تُعرف nationally determined contributions ؛اختصارًا NDCs؛ وتحاول تحقيقها.

وبحلول عام 2020 ستجتمع الأطراف المُشارِكة لتقييم التقدُّم الذي أحرزته في تحقيق أهدافها خلال هذه السنوات الخمس.

ويهدف الاتفاق إلى تعزيز الاستجابة العالميَّة لخطر تغير المناخ، والحفاظ على معدّل ارتفاع درجات الحرارة العالميَّة أقل من 2 درجة مئوية مقارنةً بعصر النهضة الصِّناعيَّة، ومواصلة الجهود مستقبلًا للوصول إلى ما دون 1.5 درجة مئوية، إضافةً إلى دعم الإجراءات التي تتخذها البلدان الناميَّة، وتقديم المساعدات الماديَّة والاستشاريَّة لهم.

وقد ذُكِرَ قطاع المباني في الـ NDCs الخاصّة بمعظم البلدان؛ ولكنَّها ما تزال تفتقر لإجراءات واضحةٍ في معالجة استهلاك الطَّاقة في هذا القطاع وانبعاثاته.

مشاركة بلدان العالم في اتفاق باريس

2. قوانين الطَّاقة في المباني:

وُضعت القوانين والمعايير الخاصة باستهلاك الطَّاقة في المباني عن طريق السلطة القضائية المختصة؛ وتهدف إلى تقليل الطَّاقة المستعملة في المباني التي في طور البناء أو التَّشغيل.

وتطوّرت هذه القوانين خلال السنوات العشر الماضية، فلدينا الآن 69 دولةً لديها قوانين إمّا طوعيَّة وإمّا إلزاميَّة، كما يوجد 8 دول مازالت قوانينها قيد التَّطوير.

ومع الأسف، ما تزال معظم الدول الناميَّة لا تملك قوانين إلزاميَّة لطاقة المباني على الرغم من ارتفاع معدّلات البناء فيها.

قوانين طاقة المباني في مختلف بلدان العالم

أمثلة لقوانين طاقات المباني حول العالم

3. شهادات طاقة المباني:

تشتمل شهادة طاقة المبنى السياسات والبرامج المُتبعة في تقييم أداء المبنى وأنظمة الطَّاقة فيه، ويمكن أن تكون طوعيَّة أو إلزاميَّة.

وإلى اليوم تبنّت 85 دولةً إصدار هذه الشهادات.

ويتزايد ذلك مع تزايد أهميتها بالنسبة للأبنية الراقية بهدف رفع قيمتها، ومع ذلك ما زال هناك نقصٌ في اعتمادها خارج الاتحاد الأوروبي؛ ممّا يعني أنَّ تتّبع أداء المبنى في مجال استهلاك الطاقة ما زال محدودًا.

أمثلة على شهادات طاقة المباني:

ثالثًا: سُبُل الوصول لصناعة أبنيةٍ مستدامةٍ

1. ما المبنى المستدام؟

هو المبنى الذي تُقلَّل تأثيراته السلبيَّة في البيئة عن طريق الكفاءة والاعتدال في استعمال الطَّاقة، والتَّصميم الصَّديق للبيئة عمومًا.

  - إذًا ماذا تعني الكفاءة في استعمال الطَّاقة؟

    كفاءة استعمال الطَّاقة تعني الاستعمال الفعّال لها بهدف تقليل استهلاكها.

2. فوائد البناء المستدام وكفاءة استعمال الطاقة.

3. كيف نصل لصناعة بناء مستدامة؟

- الحلول البشريَّة

لمستخدمي المبنى دورٌ مهمٌ في التَّأثير في أدائه البيئي؛ لذلك يجب تمكينهم من التَّحكّم في مساحاتهم الخاصّة وتعديل ظروفها الداخليَّة (التَّدفئة والتَّبريد والإضاءة وما إلى ذلك)، وذلك باستعمال أنظمة متطورة وأجهزة استشعار ذكية.

فعلى سبيل المثال: الإضاءة المرتبطة بأجهزة استشعار تضمن إطفاء الأضواء عندما تخلو المنطقة من مستخدميها، كما يمكن ضبط هذه الإضاءة وفقًا للمستويات المنصوح بها في النشاطات المختلفة (عمل، ودراسة وغيرها).

- الحلول التِّكنولوجيَّة.

تسهم التِّكنولوجيا في تقليل الحاجة إلى استعمال الطَّاقة في الإضاءة والتَّكييف والتَّدفئة، وذلك عبر عديدٍ من التِّقنيات نذكر منها على سبيل المثال:

* مصابيح LED: يبعث مصباح LED -الصمام الثنائي الباعث للضوء Light emitting diode- الضوء عبر قطعةٍ صلبةٍ من مادة شبه موّصلة (semiconductors)؛ أيّ أنَّ المادة تُصدِرُ الضَّوءَ عندما يمرُّ التّيارُ الكهربائي ممثّلًا بالإلكتروناتِ من خلالِها، وتتميّز هذه المصابيح بأنَّها أكثر كفاءة بنسبة تصل إلى 90% من المصابيح المتوهجة العادية، وذات عمرٍ أطول وتحتاج قدرًا أقل من الطَّاقة لتشغيلها ممّا يجعلها خيارًا بيئيًا أفضل.

* المضخّات الحراريَّة: تعمل عمل المكيف التَّقليدي فتمتص الحرارة من الوسط الخارجي وترفعها قليلًا، ثمَّ تنقلها إلى المبنى ممّا يقلّل الطَّاقة المصروفة على التَّدفئة. وفي حال التَّبريد تنقل الحرارة إلى الوسط الخارجي، ويُمكنها تكييف المساحة نفسها التي يعمل المكيف التَّقليدي على تكييفها بأقل من ربع التَّكلفة المطلوبة في حال وسائل التَّكييف التَّقليديَّة.

* النوافذ منخفضة الانبعاث: تصنّع باستعمال الزجاج منخفض الانبعاث (Low-E Glass)، الذي يقلل كمية الأشعة فوق البنفسجية والأشعة تحت الحمراء الداخلة، في حين أنّه لا يؤثر في كمية الضوء النافذة للبناء.

يحتوي هذا النوع من الزجاج على طبقة تغطية شفافة مجهريَّة -أرق من شعر الإنسان- تحافظ على درجة حرارة مناسبة عن طريق عكس الحرارة الداخليّة إلى الوسط الخارجي.

وجدير بالذكر أنَّ كلًّا من المضخّات الحراريَّة والنوافذ منخفضة الانبعاث تعمل بشكل مثالي فقط عند وجود عزلٍ صحيحٍ ومستمرٍ.

- الحلول المعماريّة.

يؤثّر تصميم المبنى كثيرًا في راحة المستخدمين واستهلاك الطاقة، فالأبنية الخاملة أو السلبيَّة Passive Buildings (منخفضة استهلاك الطَّاقة) تستطيع أن توّفر ضوء النهار والتَّهوية الطبيعيّة، وتحدّ من كسب الحرارة الشَّمسيَّة، وتتحكّم بحركة الهواء.

وتستفيد البلدان ذات المناخ البارد من المعايير والبرامج التي تقلّل فقدان الحرارة شتاءً والكسب الحراري صيفًا، ولكن لا تزال البلدان ذات المناخ الحار بحاجةٍ إلى تقليل الطَّاقة المصروفة على التَّبريد عن طريق اللجوء للتظليل، وتحريك الهواء، واستعمال المواد ثقيلة الوزن مع المساحات الخضراء والماء لتوفير تبريدٍ سلبي (منخفض الاستهلاك للطاقة).

ولقراءة المزيد عن الحلول المعماريّة والتِّكنولوجيَّة اضغط هنا

- الحلول المتعلقة بمواد البناء.

تشكّل انبعاثات غاز CO2 الناتجة عن مواد البناء 28% من الانبعاثات الإجماليّة لقطاع صناعة البناء، وينتج معظمها (بشكلٍ أساسي) عن صناعة الإسمنت والفولاذ، وبعضها (بشكلٍ ثانوي) عن صناعة الألمنيوم والزجاج ومواد العزل.

ويختلف اختيار مواد البناء اختلافًا كبيرًا حسب المنطقة، فمثلًا في مجال الأبنية السَّكنيَّة تعتمد عديدٌ من البلدان الهياكل الإنشائيَّة المسلّحة الخرسانية، في حين تعتمد بلدان أمريكا الشماليَّة وأوقيانوسيا وأفريقيا الخشب. 

بينما في الأبنية الأخرى (غير السكنية) يعدُّ البيتون هو مادة البناء الأساسية، ويتبعه الفولاذ المستعمل على نطاقٍ واسعٍ في المنشآت الإطاريَّة الهيكليَّة في أمريكا الشماليَّة.

ويتيح استعمال مواد بناءٍ مختلفةٍ للمهندسين تحسين تصاميمهم والاستفادة القصوى من خصائص كلّ مادة، كما يوجد عوامل عديدة يجب مراعاتها عند اختيار المواد، مثل: تكاليفها وتقنيات بناءها، وعمرها الافتراضي، وتقليل نفاياتها، واستدامتها وإمكانيَّة إعادة استعمالها، وإعادة تدويرها والبيئة الثقافيَّة.

وعلى الرغم من هيمنة الهياكل الفولاذيَّة الخرسانيَّة على سوق الإنشاءات، هناك تصميمات مبدعة تستعمل مواد منخفضة الكربون، مثل:

* الخشب الذي يستعمل عادةً في الهيكل الإنشائي وإكساء الواجهات.

* القش ويستعمل في العزل.

* الترب المدكوكة ونراها في بعض المشاريع؛ ولكنّه حل نادر.

* طين التراكوتا ويستعمل في الواجهات والسقوف.

* السيللوز وحشوات القنّب وصوف الأغنام التي تستعمل جميعها في العزل وتقليل الكسب الحراري.

أمثلة على إجراءات بعض البلدان فيما يتعلّق بمواد البناء:

النيجر: تطوّر البناء المنخفض الكربون عن طريق إنشاء الأبنية الخالية من الهياكل الإطاريَّة.

بوركينا فاسو: تروّج لاستعمال المواد الصديقة للبيئة في المناطق الريفية وشبه الحضريَّة، وذلك عن طريق تقديم إعفاءات ضريبية للمساكن المنخفضة الكربون والخالية من الخشب والمعادن، كما تدعم الأبحاث الهادفة لتطوير مواد منخفضة الكربون.

السنغال: تقترح استعمال المواد المتاحة محليّاً (مثل نبات البردي) للعزل، إضافةً إلى تقنيات الإنشاء المبتكرة (مثل الأقبية النوبيّة) للحدّ من البصمة الكربونيَّة لقطاع البناء والتَّشييد.

الأقبية النوبية

- الحلول الحضريّة.

تؤثر البيئات الحضريّة في تشييد المباني واستعمالها للطاقة بصورةٍ كبيرةٍ عن طريق قوانين البلديّات، وضوابط التَّخطيط واستعمال الأراضي التي تحدّد جوانبًا عديدةً تتعلّق بكفاءة الطاقة، مثل حجم المباني وشكلها ونوعها وارتفاعها وتوجيهها وتظليلها وحالة البنى التَّحتية والنقل.

كما تتحكّم الإدارة المحلية عادةً بعددٍ من المباني الخدميَّة، مثل: المدارس والمستودعات والخدمات الصِّحيَّة وغيرها، ممّا يجعلها مسؤولةً عن معالجة أداء الطَّاقة في هذه المباني، وبالتالي التَّأثير في الموردين والمقاولين من ناحية اعتمادهم تقنيات ومواد بناءٍ أكثر كفاءة.

مثال على دعم البناء المستدام على الصعيد الحضري:

النمسا: سكن الطلاب الأخضر في فيينا يدعم كفاءة الطَّاقة عن طريق اتصاله بشبكة التدفئة الحضريّة، واحتوائه على محطات للدراجات الهوائيَّة، وشحن السَّيارات الكهربائيَّة.

سكن الطُّلاب الأخضر في فيينا - The GreenHouse student dormitory

- الانتقال إلى الطَّاقة النظيفة.

يتطلّب الانتقال إلى الطاقة النظيفة سياسات تشجع على الابتكار ونقل الأسواق إلى تقنيات فعّالة ومنخفضة الكربون وإجراء تحوّلات إستراتيجيَّة تبتعد عن استعمال الوقود الأحفوري الذي ما زال حتى اليوم يمثل 36% من الاستهلاك النهائي للطاقة في المباني.

ويوجد تقدّمٌ ملحوظٌ في بعض المناطق، فعلى سبيل المثال زادت مبيعات المضخات الحراريّة ومعدّات التَّدفئة المتجددة بنحو 5% سنويًّا منذ 2010، كما تضاعف استعمال الطَّاقة الحراريّة الشَّمسيَّة في المباني وخصوصًا في تسخين المياه.

ويُمكن تقسيم الطَّاقة النظيفة في المباني إلى قسمين: المُوَّلدة ضمن موقع المبنى، والمُوَّلدة خارجه والتي تُستَجَّر من محطات التوليد إلى المباني.

ومن أمثلة الطاقة المُوَّلدة ضمن الموقع: استعمال الخلايا الشمسيَّة الكهرضوئيَّة PVs والألواح الحراريّة الشمسيَّة المدمجة بالأسطح والجدران، واستعمال تقنيات التَّدفئة الحراريَّة الأرضيَّة والتَّبريد.

كما يمكن توليد الطَّاقة في الموقع باستعمال الوقود النظيف (الكتلة الحيوية أو الغاز الحيوي أو الهيدروجين).

- الاقتصاد الحلقي.

هو اقتصاد يدور في حلقة دائريَّةٍ مستمرةٍ (تشمل كلّ الجوانب المتعلقة بدورة حياة المنتج من بدايتها حتى نهايتها)؛ ويهدف إلى تقليل الموارد المستهلكة، والنفايات والانبعاثات الناتجة، وتسربات الطاقة.

وعلى صعيد البناء يجب على تصميم المبنى أن يراعي جوانب حياة المبنى ومواده كلِّها خلال مراحل التَّشييد والتَّشغيل، وصولاً إلى نهاية حياته.

ويتضمن ذلك تمديد حياة المبنى عن طريق عمليات التَّجديد والإصلاح وإعادة الاستعمال وإعادة التَّدوير.

مثال على تطبيق الاقتصاد الحلقي على صعيد البناء:

الهند: نجحت مدينة "أحمد أباد" في ولاية "غوجارات" في تجميع نفايات الهدم والبناء على نطاق المدينة وإعادة تدويرها لإنتاج مواد بناء غير هيكلية، ثمَّ استعمالها مجددًا في مشاريع البناء التابعة لبلدية المدينة، كما أُقِرَّت حوافز وسياسات جديدة تدفع لتكرار هذا المثال في مدنٍ أخرى.

وختامًا متابعينا الأعزاء، لابدَّ أنَّ معظمكم قد لاحظ غياب معظم البلدان العربيَّة عمومًا وسوريَّة خصوصًا عن تطبيق هذه التَّوصيّات والمشاركة في الاتفاقيات والمؤتمرات، فما سبب ذلك برأيكم؟ وهل تُطبَّق أيّ إجراءات بيئية في بلدك؟ شاركنا برأيك في التَّعليقات.

مصادر المقال :

هنا

هنا

هنا;

هنا

هنا

هنا

هنا

هنا