الفلسفة وعلم الاجتماع > الفلسفة

الصراع بين المعرفة والحكمة؛ الفلسفة التحليلية والفلسفة القارية

عند مواجهةِ الجدلِ الفلسفيّ بين التنظيرِ والتطبيقِ تظهرُ الفجوةُ بين المعرفةِ والحكمة بأبرز صورها، إذ يغدو معنى الحياة ضائعًا بين توجُّه العلم الذي يُمثِّل "المعرفة"، والنظريات في الفلسفة عن قيمة الوجود، وبمعنىً أكثر تفصيلاً هو الجدل بين الاختيارات المادية الخالصة من أيةِ رؤية ميتافيزقية (ما وراء الطبيعة) التي بدورها تؤدِّي في نهاية المطاف إلى نوع من التوجُّه العدمي تجاه معنى الحياة وهذا ما قدّ يتسرّب نحو القِيَم الأخلاقية والجمالية والوجودية، وبين التوجُّه الفلسفي الذي يُحافظ على معنىً محفوظ بجوهره للوجود والاعتبارات المذكورة سابقًأ. ومن تلك الإشكاليات التي تواجه الفلسفة المعاصرة هي البعد بين التفكير في ما تعنيه حياة بشرية وجودية وسعيدة وهادفة؛ إذ يتكوّن معنىً يشكّل الرضا الداخلي لدى الفرد، وبين وقوف المعرفة حاجزاً أمام تطبيق تلك النظريات، إذ إن العلوم الطبيعية عملت على تقليص نظرة الوجود والبعد الميتافيزيقي الذي يضمن لبعض أجزاء التيارات الوجودية الاستمرار على حالها.

وهذا ما جعل العديد من المحاولات الفلسفية والدينية تعمل على ملء فجوة المعنى، مثل الدين التقليدي عبر التاريخ وفي وقتنا الحاضر، أو ابتداع تديُّن متطوّر في بنيته مثل الحالات الليبرالية والإنسانية التي تقضي على إيجاد معنىً لحالة الوجود الإنساني من خلال الوصية الأسمى والقيمة الأولى والإيمان بهما، وتعدّ معاهدة حقوق الإنسان مثالاً واضحًا لذلك[1]. أو من خلال أحد فروع الروحيات مثل التنجيم واليوغا والتأمُّل والطاقة، ولكن مقابل ذلك يُنتجُ تدخل العلمِ الخالصِ الظلاميةَ تجاه معنى الحياة وأشكال التديُّن والروحيات والإيمان بالقِيَم، ومن رؤية بعض الفلاسفة الذين سنتطرّق لرأيهم في هذا المقال، قد يُفضي العلم إلى التدميرية بكافة فروعها لعدم وجود برهنة معرفية وعلمية لوجود قيمة القيمة ومعنىً للوجود، وهذا ما يجعل ذلك الوضع يتمثَّل بمقولة الفيلسوف والاقتصادي البريطاني جون ستيورات مِل (1806-1873):

‘‘أحد الاتجاهين يمكن أن يصنع من الرجال وحوشًا، والآخر مجانين‘‘

ولهذا فإنَّ مهمة الفلسفة المعاصرة بما أحدثه العلم من نزع سحر الطبيعة عن العالم وإقصاء المعنى، هي أن تجد الحل الوسط بين المعرفة والحكمة لسدّ هذه الفجوة، فلا نصبح وحوشًا ولا نصبح مجانين "كما قال ستيورات مِل" وهذا تحديدًا  ما شَرَعت الفلسفة القارية* نحوه.

تبدأ الأمثلة من الفيلسوف الألماني هيجل في صراع الإنسان حتى الموت من أجل الاعتراف به كائنًا بشريًّا ذا مركزٍ وكرامة داخل الطبيعة، أو فريدريك نيتشه الذي دمَّر كل مسلّمات عصره، الدينية منها والمعرفية، وأعاد بناء وجوديَّته الخاصة متمثّلة بالإنسان الأعلى وإرادة القوة، أو جون بول سارتر في خداع الذات وصنع المعنى من اللامعنى. [2]

وبقيَ هذا الصراع منذ أن خاضَ فلاسفة أوروبا القارية بدءًا من إيمانويل كانط ووصولا إلى المثالية الألمانية حتى أخذت ماهية الفلسفة القارية مكانتها، وامتد بعدها نحو صراعِ وحدةِ الوجود والإلحاد بها [2]  ممّا ترك الفلسفة تقع في حيرةٍ بين المعرفة التي قدّ تؤدي للعدمية التدميرية ونكران القِيَم وبين الحكمة التي تؤدي لتأويل الوجود بتأطير فلسفي مدعَّم من القِيَم.

ولتوضيح ذلك؛ إن العدمية تقوم على نقيض الفكر الوجودي، فرواد الفكر العدمي يعتقدون أنَّ الحياة لا تملك أيّ معنى في جوهرها، وأن كل محاولات صُنع جوهرٍ للحياة هي في الحقيقة دون جدوى، وتنقسم العدمية إلى أشكال عدة إحداها يدعو لتحطيم جميع القيم والمعتقدات والاعتبارات.[3] وهذا ما يجعل المعرفة والفلسفة التحليلية تدعم هذه الفكرة بطريقة غير مباشرة  لأن العلم يتحذ مسيرًا مستقلًّا عن الآراء الشخصية والتحليلات الفلسفية غير المبرهنة، إذ إنه لا يستند إلّا إلى الحقائق والمعرفة المُبرهنة.. والقِيَم والمسؤولية الشخصية والإرادة التي تقوم عليها الفلسفة الوجودية لإيجاد المعنى [4] تُعرَّف من "المعرفة" بأنها محض أوهام جمعية وحاجة بشرية للشعور بالرضا.

وتمارس "الحكمة" دورها هنا في التمسُّك، ولو تدريجيًا، بتعريف القِيَم على أنها جوهر وجودي بذاته، وهذا خوفًا من الأثر التدميري الذي يمكن أن يحصل إن هُمِّشت، وقدّ حذَّر الفيلسوف الوجودي فريدرك نيتشه من ذلك عندما وصف العدمية الأوروبية "راجع مقالة وجودية نيتشه من هنا".  

 

وفي محاولة للتوفيق بين الاتجاهين الفلسفيين المذكورين يقول الفيلسوف الألماني فريدريش جاكوبي (1743-1819):

"‘لكن الإنسان أمامه اختيار واحد: العدمية أو وجود إله، إذا اختار الإنسان العدمية فإنه يجعل من نفسه إلهًا، أيّ إنه يجعل من الوهم إلهًا لأنه في حالة عدم وجود إله يستحيل أن يكون الإنسان وكل ما يحيط حوله إلّا وهمًا، وأعود وأكرِّر؛ إمّا أن يكون الإله كيانًا حيًّا قائمًا بذاته، وموجودًا خارج نفسي، وإمّا أن أكون أنا الإله، وهما أمران لا ثالث لهما."

وهذه كانت دعوة الفيلسوف جاكوبي لشكل من أشكال الثنائية الفلسفية، إذ إنه وراء الانشغالِ الفلسفي بالحقيقة يقع مجال الحقيقة الذي لا يمكن الوصول إليه إلّا عن طريق الإيمان الذاتي. [2] 

وبعيدًا عن محاولة بعض الفلاسفة صياغة ثنائية فلسفية بين المعرفة والحكمة، يلخِّص الفيلسوف الأمريكي ستانلي روزن (1929-2014)، وبطريقة نمطية، الفرقَ بين الفلسفة التحليلية التي تدلّ على العِلم والفلسفة القارية التي تُمثِّل صياغة القِيَم والوجود، على النحو التالي:

"الدقة والوضوح المفاهيمي والصرامة المنهجية، هي سمات الفلسفة التحليلية، في حين أن الفلسفة القارية تستغرق في الميتافيزيقيا التأمُّلية أو التأويلات الثقافية؛ أو بدلا من ذلك، واعتمادا على تعاطف المرء معها، تستغرق في الاستفهام للأوهام والسخافات" [2]

 هامش:

الفلسفة القارية* وهي اسم فترة تمتدُّ ماْئتَي سنة في تاريخ الفلسفة، تبدأ بنشر الفلسفة النقدية لِكانط في ثمانينات القرن الثامن عشر، وحفَّز ذلك ظهور الحركات الفلسفية التالية:

 

 

 

 

 

 

المصادر:

1- نوح هراري، يوفال (2018). العاقل؛ تاريخ مختصر للنوع البشري. ترجمة: العبري، حسين. بن علي الفلاحي، صالح. (ط.1). الإمارات العربية المتحدة: دار منجول للنشر. صـ 251.

2- كريتشلي، سايمون (2016). الفلسفة القارية؛ مقدمة قصيرة جدا. ترجمة: شكل، أحمد. مراجعة: محمد فؤاد، مصطفى. (ط.1). جمهورية مصر العربية: مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة. صـ 15، 31، 35، 42.

3- هنا

4- هنا