كتاب > روايات ومقالات

مراجعة كتاب (ماذا علمتنى الحياة؟): حياة مملوءة بالفكر والعمل

جلال أحمد أمين (1935 - 2018)؛ عالم اقتصاد وأكاديمي وكاتب مصري، وهو ابن المؤرِّخ والكاتب المصري (أحمد أمين)، وقد صدرت له مؤلفات عديدة تنوعت مواضيعها ما بين الاقتصاد والسياسة والمجتمع والثقافة، ومن أشهرها كتاب (ماذا حدث للمصريين)؛ الذي نُشِر عام 1998، وهو الذي يسلِّط الضَّوء على التغيُّرات التي طالت المجتمع المصري في  نصف قرن من الزمن، ولقد فاز الدكتور (جلال أمين) بجائزة سلطان العويس في مجال الدراسات الإنسانية والمستقبلية عام 2009.

(ماذا علمتني الحياة؟) هو كتابٌ في السيرة الذاتية نُشِر أول مرة عام 2007، وتناول فيه الدكتور (أمين) أبرز محطات حياته مشاركًا القُرَّاء ما يعتقد أنَّه نافع ومفيد، بدءًا من العائلة فالدراسة فالتعليم والكتابة.

يفتتح الدكتور (أمين) كتابه بالحديث عن عائلته؛ أمِّه وأبيه، وإخوته السبعة.

فتجده يصف طباعهم وأهواءهم موضِّحًا الفروقات الدقيقة بين شخصياتهم، وقد كان شديد الإعجاب بأبيه، فهو يصف نُبْل أخلاقه متسائلًا عن كيفية اكتسابه لهذا الخُلُق الرفيع: " كان دائم التساؤل عن الموقف الأخلاقي الصحيح.. إنه يستقيل من وظيفةٍ رفيعةٍ لدى أيّ اعتداءٍ طفيفٍ على كرامته، ويقف ضد السلطة إذا رآها ظالمة، ويرفض منصباً خطيراً إذا اعتقد أنَّه ليس أهلاً له.. إلخ. من أين أتى بهذا الحس الأخلاقي القوي؟ هل ورثه عن أبيه؟ أم كان نتيجةً لتربيته الدينية العميقة؟ إني لا أعرف كيف يُورَّث الحسُّ الأخلاقي أباً عن جد، كما لا أعرف كيف يولد الشعور الديني القوي حسّاً أخلاقياً قوياً عند البعض ومجرد تمسك بشكليات الدين عند البعض الآخر."

وعلى الرغم من تأثُّر الدكتور (أمين) الواضح في أبيه، والذي أرخى بظلاله على مختلف جوانب حياته، فإنَّ شخصية أبيه المتميزة بالغنى الفكري والترفُّع عن الماديات لم تكن تعني الشيء نفسه بالنسبة إلى أولاده جميعهم، ولمن كان يختلف معه في النظرة إلى الحياة خصوصًا؛ كابنه الأكبر (محمد): "كان (أبي) منذ طفولته "رجل فكر"، بينما كان محمد "رجل عمل". لم يكن من الغريب إذاً أن تنشأ فجوةٌ كبيرةٌ بينه وبين أبي. فهما طرفا نقيض."

يكمل الدكتور (أمين)، فيحكي عن دراسته في كلية الحقوق في جامعة القاهرة، ثم عن انتقاله إلى لندن لدراسة الماجيستير ثم الدكتوراه في الاقتصاد.

ويعرِّج على الفروقات بين الجامعتين وأنظمة التعليم؛ فهو -مثلاً- لم يكتشف مدى حرمان الطلاب من الحياة الجامعية التي ينبغي أن تترافق مع الدراسة، إلا حين أصبح طالبًا في الجامعات الإنجليزية، فيقول في هذا الشأن: "عندما أتذكر السنوات الأربع التي قضيتها طالباً في كلية الحقوق، يستولي علي العجب من درجة الحرمان الذي تعرضنا له نحن الطلبة المصريين من أي حياة جامعية على الإطلاق. لا أذكر أني جلست في هذه الكلية على مقعدٍ وثير، بل على أي مقعد على الإطلاق، عدا المقاعد الخشبية في المدرج، ولا أني تناولت مشروباً فيها أو طعاماً، فليس هناك مكان للطعام يمكن أن يجلس فيه التلاميذ قبل المحاضرة أو بعدها. وليس هناك حجرة يمكن أن تجتمع فيها أعضاء جمعية ثقافية أو موسيقية أو سياسية، إذ لم تكن هناك أي جمعية على الإطلاق."

ويعود الدكتور (أمين) بعد نيله شهادة الدكتوراه إلى مصر ليدرِّس في جامعة عين شمس، ثم يتقلَّب في عدة وظائف، ولكنَّه يقضي جزءًا كبيرًا من حياته مُمتهنًا التعليم الجامعي، بالإضافة إلى البحث والتأليف، ويتطرَّق في خضم حديثه عن حياته الأكاديمية والمهنية إلى الحديث عن بداية اهتمامه بالمواضيع والقضايا السياسية منذ مطلع شبابه.

فيمرُّ الدكتور (أمين) على أبرز الأحداث السياسية في مصر، بدءًا من ثورة يوليو 1952، ومرورًا بالحقبة الناصرية وهزيمة 1967، ووصولًا إلى الانفتاح الاقتصادي، ومن ثم معاهدة السلام بين مصر وإسرائيل 1979، ويبدي رأيه دونما حرجٍ في الأنظمة التي تعاقبت على الحكم كلها مُعلِّقًا على سياساتها الاقتصادية والخارجية.

وعلى الرغم من تمسُّكه بمبادئ أساسية لا يحيد عنها، فهو لا يتوانى عن مراجعة أفكاره وتصويبها، بل وإعادة تقييم الأحداث إن عرضت له معطياتٌ ومتغيرات جديدة، ويظهر ذلك بوضوح في موقفه من (عبد الناصر) فيقول:

"لا عجب إذن أن تلقيت خبر وفاة جمال عبدالناصر 1970 بهدوء شديد، وبمشاعر فيها من دهشة المفاجأة أكثر مما فيها من حزن.. كان جمال عبد الناصر لا يزال يمثل في أعينهم رمزاً لأهداف الوحدة العربية، ومقاومة الاستعمار، والدفاع عن مصالح الفقراء، أما بالنسبة لي فقد كانت هذه نظرتي لعبد الناصر في السنوات الخمس أو الست الأولى لتأميم قناة السويس في 1956، ولكن خلال السنوات الخمس أو الست السابقة على وفاته لم أشاهد أي تقدم نحو تحقيق هذه الأهداف.. ولم تتغير مشاعري نحو عبد الناصر مرة أخرى إلا في منتصف السبعينات، عندما رأيت حجم التنازلات التي بدأ يقدمها أنور السادات لإسرائيل والولايات المتحدة، وبدأت إنجازات عبد الناصر في مجالات الاقتصاد والسياسة الخارجية والعربية تبدو لي في ضوء مختلف تماماً، وإيجابي للغاية، بمقارنتها بخطايا السادات في كل هذه المجالات."

ويفاجئك الدكتور (أمين) بصراحته وقدرته على تقييم نفسه وغيره بكثير من الموضوعية ودونما خجل أو تدوير للزوايا. فلا يخبرك عن مفضلاته وطباعه مباشرةً، وإنَّما يترك لك الخيار بأن تكتشفها بنفسك حين تقرأ ما بين السطور، فتراه حرًّا يكره التملُّق للسلطة، وتراه مُفكِّرًا يحوِّل المواقف اليومية موضوعًا لقضايا فكرية، وتراه كاتبًا يحبُّ القلم ويؤمن برسالته.

أما أسلوبه في الكتابة، فيتميز بالسلاسة والبساطة بالإضافة إلى قدرته العالية على الوصف باستخدام أدق العبارات وأكثرها إيصالًا للمعنى.

ويُعد كتاب (ماذا علمتني الحياة) من أغنى السير الذاتية قلبًا وقالبًا؛ فهو يعرِّف القارئ إلى شخصية أكاديمية معاصرة ناضلت لأجل العدالة والتقدُّم، وهو يفتح للقارئ -بلا شك- الآفاق، ويثير تفكيره بكثير من الأسئلة، ناهيك عن المتعة التي لن تفارقه طوال رحلته مع الكتاب. 

معلومات الكتاب:

أمين، جلال. (2015). ماذا علمتني الحياة؟. (ط.7). دار الشروق. عدد الصفحات: 432.