كتاب > اكتب تكن

قراءة في كتاب (بين صوتين؛ فنيات كتابة الحوار الروائي): التفنُّن في الإيجاز

"الكتابة الروائية طريقة وعرة، وحيدة، ومليئة بالشكِّ الذاتي."

بهذا الاقتباس بدأت الروائية الكويتية (بثنية العيسى) مُقدِّمةً كتابها (بين صوتين)، ووصفت فن الرواية بأنه عالمٌ تصعب السيطرة عليه، وتشرع الروائية (بثينة العيسى) -انطلاقًا من هذا الوصف- في شرح إحدى المهارات الأساسية في فن الرواية، وهو الحوار الروائي.

وتؤكد المؤلفة في بداية الكتاب صعوبةَ تقمُّص الكاتب في روايته لروح شخصيات مختلفة ينطق بلسانها ويُعبِّر بمنطقها، وهذا يستند إلى اختلاف تلك الشخصيات -المُختلقة من خياله- ثقافيًّا وتاريخيًّا وزمنيًّا عن تجربة الكاتب الذاتية، وهذا ما يُلزم أمرين ببعضهما وهما؛ اتساع ثقافة الكاتب، وقدرته على تبنِّي كل شخصية في أعماله الروائية بدقة.

"يجب معاملة الحوار دائمًا أنَّه مباركة للعمل تنعشه وتمنحه الألوان وتعزِّز تماسكه وتدفُّقه."

وتصف الكاتبة (إليزابيث بورين) أنَّ الحوار يجب أن يكون -واقعيًّا دون أن يكون ذلك- وتُترجم الكاتبة (بثنية العيسى) هذه النظرة بوصف الفن دون فنية، وهذا هو الفن المضاعف، ونقول في ذلك إنَّ الحوار بين الشخصيات يجب أن يحمل معه كثيرًا من طابع الواقع ليؤثِّر في القارئ؛ ولكن، دون أن يكون واقعيًّا بحتًا، وينزع عنه كل طابع أدبي، بل أن يكون ما بين عالم الواقع والرواية ممَّا يصبغ الشخصيات بالطابع الواقعي والأدبي في آن واحد.

وتشرع المؤلفة في هذا العمل أيضًا في تقديم أهم نصائح الروائيين العالميين والنقاد الأدبيين، ومن هذه النصائح يستند كتاب (بين صوتين) إلى سبع قواعد أساسية وضعتها (إليزابيث بوين)، وتُناقش على ضوئها وتحلٍّل فنيات الكتابة الحوارية في هذا العمل، ثم تُقارن مع آراء كُتَّاب آخرين، وهذه القواعد هي:

١- يجب أن يكون الحوار موجزًا.

٢- يجب أن يشكِّل إضافة إلى معرفة القارئ الحالية.

٣- يجب ألا يحتوي على الكلمات الروتينية في الحوارات العادية.

٤- يجب أن يتضمَّن حسًّا عفويًّا، ويخلو -مع ذلك- من التكرار الوارد في الكلام الواقعي.

٥- يجب أن يحافظ على حركة القصة.

٦- يجب أن يكون كاشفًا لشخصية المتكلم كشفًا مباشرًا أو غير مباشر.

٧- يجب أن يُظهِر طبيعة العلاقات بين الشخصيات.

وتُناقش المؤلفة قضيةَ الإيجاز في الحوار الروائي، وتعزو ذلك إلى تأثيره في القراءة المعاصرة أيضًا، أو وفق ما تُسميه (زمن مواقع التواصل الاجتماعي)؛ إذ إنَّ النصوص القصيرة تشد انتباه القارئ أكثر من غيرها، ولهذا الإيجاز ضرورة ملحَّة وتحتاج براعة حقيقية لشدِّ حواس القارئ إلى النص سطرًا تلو الآخر، وتوضّح المؤلفة في نهاية هذا القسم أنَّ الاختصار في الحوار الروائي ليس غاية في ذاته، بل وسيلةً لجذب القارئ بطريقة نوعية تحمل من المعنى والدلالات كما يحمل الشرح والتفصيل والتكثيف.

ويمثِّل الحوار الروائي وسيلة معرفية مهمة أيضًا، فإنَّ إغناء معرفة القارئ بما يحدث  من أحداث لا يقتصر على السرد بل إنَّ الحوار يؤدي دورًا مثمرًا لدفع الحبكة إلى الأمام والكشف عن الأفكار المفصلية في العمل، ويكشف عن خبايا وتاريخ الشخصيات أيضًا، وقد شهد الأدب الروائي أمثلةً من الرواية الحوارية التي تجسِّد الفكرة المذكورة، فقد يطغى الحوار على الأحداث؛ مثل روايتي (هما، العصفورية) لغازي القصيب، ورواية (علاج شوبنهاور) لإرفِين د.يالوم هنا.

وتؤكد الروائية(بثنية العيسى) مستعينةً بنصائح الروائيين، في قسم (الحوار والواقعية) أنَّ َّالحوار ليس ورقةً كربونية عن الواقع، ولا يجدر به أن يكون كذلك، بل إنَّ الرواية حالة فنية لتكثيف الواقع  وتقليمه بإزالة الأطراف والزوائد الروتينية، ثم عرضه للقارئ، ويقول ماركيز:

"إنَّ الرواية الجيدة ما هي سوى نقل شعري للواقع."

ونلحظ ذلك في عمله (قصة موت معلن هنا)، فقد اقتضب واقعةً حقيقية حدثت في كولومبيا في بضع صفحات بطريقة أدبية، ومن أهم سمات الحوار في رواية ماركيز تلك  هي أنَّه كشف خبايا الشخصيات والأحداث ببراعة فائقة ممَّا يجعل منه سردًا مقتضبًا وأدبيًّا بامتياز.

وفي أكثر الأقسام أهمية تُقدِّم المؤلفة مثالًا واقعيًّا من حياتها الشخصية لتوضيح فكرة (واقعية الحوار)، فتسرد لنا ما حدث من حوار بينها وبين ابنها وكيف حُوِّل ذلك الحوار من الشكل الواقعي إلى الشكل الحواري، وكيف صُبِغ بالفن والطابع الشعري.

وكما ذكرنا في مقدمة المقال أنَّه قد يكون التحدي الأكبر في فن الرواية هو خلق أشخاص -وليس شخصيات- حقيقيين بالكامل، فالمقصود هنا أشخاص أحياء -مجازيًّا- يشعرون وينبضون بالحب والكره والوحدة بما يكفي ليتأثَّر  فيهم القارئ ويشاركهم ذلك النبض، ففن الحوار الروائي هو أحد الوسائل التي تغرز شخصيات الرواية في الوجدان وأهمها؛ إذ إنَّ فنيات الحوار قادرة على إنعاش حضور الشخصيات وإظهار طبائعها وجعلها أكثر تفاعل وبشرية.

وتذكر المؤلفة في قسم (الحبكة والحوار) أهمية هذه العلاقة بينهما، وهذا عن طريق مجموعة من الآراء والأمثلة، فإنَّ الحبكة هي الطريقة التي تتجلى فيها الحكاية داخل اللغة، وهي المسؤول الرئيسي عن الحفاظ على شغف القارئ وتشويقه، فلا يكفي أن تكون الشخصيات حقيقية وجذابة ومثيرة للفضول، ولا أن يكون الحوار مقتضبًا وعميقًا ليعبِّر عن فن فريد من نوعه، بل يحتاج إضافةً إلى كل ذلك إلى الحبكة ليرتبط معها بعلاقة متكاملة من حيث الانسجام والاندماج. 

وقد يكون العمل بذاته حوارًا سرديًّا؛ مثل رواية (العمى هنا) لجوزيه سارماغون، فسرْد الرواية استند على دمج حوار شخصياته مع أحداث الرواية وخلفياتها، ومنه نستنتج خلاصة الكتاب الذي نراجعه الآن: أنَّ الحوار الذي لا يدفع الحبكة إلى الأمام أو يضيف شيئًا إلى طباع الشخصيات أو ملامح الزمان والمكان، أو يمتلك سببًا قابلًا للتعريف بوجوده؛ يجب عدَّه غير ضروري، وضررًا للقيمة الأدبية للرواية.

يقول (ستيفن كينغ):

"عندما يكون الحوار صحيحًا فنحن نعرف، وعندما يكون الحوار خاطئًا فنحن نعرف، فهو يضرب في آذاننا مثل آلة موسيقية سيئة الضبط."

فسرُّ كتابة حوار ناجح -بالنسبة إلى (ستيفن كينغ)- هو "الصدق"؛ الأمر الذي يعني أن تستنطق الشخصية بأمانة، وأن تعطي كل شخصية صوتها الصحيح، فيتكلم الوغد كالأوغاد، والنبيل كالنبلاء، والطفل والبالغ والعاقل والمجنون كلٌّ منهم يوافق صفات شخصيته.

معلومات الكتاب:

العيسى، بثينة. بين صوتين، لبنان: الدار العربية للعلوم ناشرون، طـ 1، 2014. عدد الصفحات: 55.