كتاب > روايات ومقالات

مراجعة كتاب (مرحبًا هل من أحد هناك؟): اكتشاف الحياة وتفحصها

"الخيال يحملنا -غالبًا- إلى عوالم لم تكن موجودة قط؛ ولكن، لن نذهب دونه إلى أي مكان، أمَّا الشك، فيمكِّننا من التمييز بين الزائف والحقيقي كما يمكِّننا من اختبار أفكارنا، والكون غني دون حدود بالحقائق الرائعة والعلاقات المتبادلة المتقنة والوسائل الذكية لاكتشاف الأشياء التي تكتنفها الأسرار."

ففي قصة (إيراتوسيثنس) التي يرويها (كارل ساغان) يقول كارل عن مسألة حساب محيط الكرة الأرضية:

 "كان يمكن لأي شخص آخر أن يتجاهل هذه الملاحظة بسهولة، فما أهمية القضبان والظلال والانعكاسات في الآبار ووضع الشمس بالنسبة إلى المسائل التي نواجهها في حياتنا اليومية"، لكنَّ (إيـراتو) "سأل نفسه"، واسترق النظر من خلف ذلك الحجاب باحثًا ومتساءلًا ليكون بذلك شخصًا استثنائيًّا يطلق العنان لخياله نحو آفاقٍ غير محدودة، وهذا ما يرغب في إيصاله أستاذُ الفلسفة وتاريخ الفكر (جوستاين غاردر) صاحب رائعة (عالم صوفي)؛ التي تُرجمت إلى أكثر من أربعين لغة.

ويعود (غاردر) في روايته (مرحبًا هل من أحدٍ هناك؟) ليبعث في داخلنا قول سقراط:

 (إنَّ الحياة غير المفحوصة لا تستحق العيش.)

 فنراه كيف آخَى ما بين الدهشة والتساؤل على أنهما روح الفلسفة، ويظهر ذلك جليًّا في الحوار الذي يدور بين (جو) و(ميكا)، وهو محور الرواية؛ إذ يعتمد الكاتب على أسلوب الحوار الرقيق المعاني والغني بالمعلومات التي ستكون مهمة ومحفزة للقارئ على حد قول (غاردر): 

 "بأنَّ المهم أن تثير العقل وتساعد الأولاد في بحث الاحتمالات الكثيرة للقضايا والنظريات المطروحة، ومؤكِّدًا أنَّه ليس من الضروري أن يوافق القارئ على كل ما ورد فيها من معلومات."

وقعت أحداث هذه الرواية عندما كان (جو) في الثامنة من عمره، فقد ذهب والداه إلى المستشفى بينما بقي هو جالسًا على مقعد أمام النافذة منتظرًا وصول أخيه المولود الجديد، وبينما كان (جو) يتأمل النجوم متسائلًا إن كان هناك حياة على كواكب أخرى اندفع شهاب ساطع أمام ناظريه عابرًا السماء، عندها سمع صوتًا قادمًا من الحديقة فذهب ليتأكد وعندها "رأى صبيًّا يتدلى من شجرة التفاح، كان ذلك ميكا."

 لتبدأ سلسلة الأحداث الأكثر إمتاعًا عن طريق حوار بين (ميكا) القادم من الفضاء من كوكب آخر و(جو) الذي يقيم في كوكب الأرض، وقد سأل (جو) (ميكا) عن سبب وقوفه مقلوبًا، فأجابه:

"عندما يلتقي شخصان ويكون أحدهما مقلوبًا ليس من السهل معرفة أيُّهما المقلوب وأيُّهما المعتدل."

فالكاتب يرغب في هذا الكتاب المُفعم بتساؤلات مختلفة ومتعددة أن يحفز العقل على البحث وتفحُّص الحياة، وفي حوار استثنائي يعبِّر عن أهمية التساؤل ومدى عظمته وقيمته "يعطي جو لميكا تفاحةً ثم يسأله: هل أعجبك طعمها؟ فينحني ميكا؛ لأنَّ المكان الذي جاء منه إذا سأل شخص ما سؤالًا ينحنون له." 

يناقش هذا الكتاب مسائل في غاية الأهمية؛ مثل التطور والسنة الضوئية والكون، ويدعونا (جوستاين) عن طريقه إلى أن ننظر إلى الحياة من منظور جديد.

و(جو) الذي كان ينتظر خالته أن ترعاه في غياب والديه تفاجأ بطفل قادم من الفضاء؛ لذلك كان عليه أن يخفيه عن خالته عندما تصل، فينقلنا الكاتب بين عدة أماكن في أثناء الحوار ما بين حديقة المنزل والبحر والغرف المتعددة، وإنَّ أكثر ما يثير الرغبة بالبحث هو أسلوب (غاردر) الشيِّق والعبقري، ولعل كلمات (ميكا) المُندهش والمُتأمل تُحرِّك تلك المَلَكة لدى الأطفال ونلاحظ ذلك في رسالة يوجهها (غاردر) إلينا عن طريق هذا الحوار: 

"أعجب جو بإجابة ميكا… فانحنى لها بشدة… ولما رفع رأسه رأى ميكا قد وضع إبهامه في فمه من جديد وكـأنَّ جو جرح مشاعره… ثم سأله " لماذا انحنيت؟" قال جو: لأنَّك أجبت إجابة ذكية."

 ميكا: لكنَّ الإجابة لا تستحق الانحناء أبدًا مهما كانت صحيحة أو ذكية… لا ينبغي الانحناء لها."

وكأنَّ غاردر يقول لنا بأنَّ السؤال إبداعٌ والباقي تتمة لا توازي ولا تساوي أهمية السؤال ويؤكد ذلك حين يقول (ميكا): "إنَّ الإجابة تمثِّل الطريق الذي وراءك… أمَّا السؤال، فيشير إلى الطريق الذي أمامك، إنَّه يدل على الطريق القادمة."

وفي هذا حكمة يمرِّرها (غاردر) على لسان (ميكا) الفضائي؛ فهو لا يريد أن تنطفئ دهشتنا وتموت فلسفتنا وتختفي غايتنا وتأملنا لما حولنا في هذا الكون الواسع؛ فكوكبنا ما يزال كما قال (كارل ساغان):

"إنَّه عالم من بين عوالم هائلة أخرى."

ولكن ماذا حدث مع (ميكا)؟ هل عاد إلى كوكبه أم أنَّ هناك كثيرًا من القضايا المهمة التي سيناقشها مع (جو)؟ فهل سيعيش مع العائلة أم يعود؟ لنقرأ هذا العمل الملحمي للكاتب النرويجي ونعطي لأطفالنا فرصة التأمل والبحث.

فهذه الرواية تُعدُّ من أهم الكتب التي أحدثت أثرًا في الفكر العالمي لدى الشباب والصغار، فهي تستفز العقل وتحفِّزه على البحث.

معلومات  الكتاب:

المؤلف: غاردر. جوستاين. مرحباً هل من أحد هناك؟. أماني العشماوي. القاهرة. دار الشروق. ط 1، 2001. عدد الصفحات: 109