كتاب > الكتب الأدبية والفكرية

مراجعة كتاب (نيتشه مكافحًا ضدَّ عصره): حقيقة اللاحقيقة

عبَّر الفيلسوف الألماني (فريدريك نيتشه) عن حالة استثنائية من المنهج الفلسفي، وجعل من العدمية نبوةً وجودية تجاه الإنسان الأعلى، وكان له من رؤية الحقيقة والأخلاق والحكمة تأثيرٌ وجدل واسع الأفق على الفكر الأوروبي، وهذا النهج الفلسفي وُلِد -عمليَّا- من رحم العدمية التدميرية التي أنهكت القِيَم والمسلَّمات كلها في عصره، ثم أعلن الشروع في بناء هذا الاتجاه الفلسفي تجاه نقد العدمية التدميرية نفسها بعد مرحلة فكرية مُحدَّدة؛ وهذا ما يُقسِّم حياة نيتشه إلى أكثر من مرحلة فكرية مرَّ بها، ومن الصعب والصعب جدًّا أن يُؤطَّر تبعًا لشكل واحد من أطروحاته المتعددة، بل الأصح أن يُعامل على أنَّه قطعة فلسفية كاملة؛ لأنَّ هذه المعادلة الجدلية تحتاج كتابًا استثنائيًّا يشرح نيتشه المكافح ضدَّ عصره، وهذا ما عَمِل عليه تلميذ نيتشه (رودولف شتاينر 1861-1925) تحديدًا، فهو فيلسوف واجتماعي ومُفكِّر نمساوي، وقد عُرِف بكونه ناقدًا أدبيًّا وثقافيًّا.

ويفتتح المُترجم (حسن صقر) الكتابَ بمقدمة تطال مراحل حياة نيتشه، بالإضافة إلى أهم النقاط المفصلية التي خاضَ فيها تناقضاته وتطوراته الفلسفية، ووصولًا إلى مرحلة مرضه وانهياره العصبي وما بعده من أثر في فلسفته حتى الموت، وقد ترك كلماته الأخيرة في أجواء من الجنون والانهيار، وذلك ما يترك بدوره في نفس القارئ دافعًا إضافيًّا إلى فهم طبيعة نيتشه ومدى امتداد جدليَّته إلى عصرنا الحالي؛ فإنَّ المُترجِم هنا لعب دور المُبشِّر بالكتاب الذي ترجمه لحل ألغاز نيتشه، وذكر أكثر المفاصل الجدلية في حياته مُمهِّدًا لما يطرحه هذا العمل.

ويقدِّم المؤلِّف (رودولف شتاينر) في سبعة فصول مرتَّبة زمنيًّا وفكريًّا بحسب حياة نيتشه أهمَّ المحطات الجدلية التي يستند عليها الفكر النيتشوي كونه ناقدًا مدمِّرًا وعاملًا بنَّاءً، ويركِّز في تقديمه على استخراج نيتشه من جوهر نصوصه ولهذا ترافق كل شرح وكل تنقيح لهذا الفكر اقتباساتٌ من كتب نيتشه ومذكراته، وكلمات رسول نيتشه -خاصةً- تجاه الإنسان الأعلى وهو زاردشت في كتابه الذي أحدث ثورة فلسفية في عصره "هكذا تكلم زاردشت"، والذي تنبَّأ نيتشه بأنَّه سوف يُدرَّس في الجامعات في عصرنا هذا،  وذلك ما حدث.

أما بعد تجاوز الأقسام الأولى من الكتاب والتي تنبض بكل طابع عدمي تجاه الحقيقة والحكمة والقِيَم الدينية والميتافيزيقية "ما وراء الطبيعة"، يتساءل القارئ مُرغمًا تساؤلًا مشروعًا: أهناك طريقة مُطلقة لنُفكِّر؟ وما السبيل لنُدرك الوجود؟

فإنَّ (رودولف شتاينر )يسعى في الفصول الأولى إلى نفي الحقائق وسُبل الحكمة دائمًا، وذلك استنادًا إلى فلسفة نيتشه، ويُكمل القارئ تساؤله: أيمكنُ أن نفصل العقل عن قرينته العاطفة؟ وما هي الحكمة؟

وهنا يحوِّل المؤلِّف شتاينر الدفة تجاه توضيح ماهية هذه الأسئلة وعُمقها في فلسفة نيتشه، بالإضافة إلى أنَّه يعرض مراحلها كلها مُرفقًا إيَّاها بأمثلة تاريخية من حياة نيتشه وتأثُّره في الفيلسوف (شوبنهاور) والمثالية الألمانية ثم تحرَّره منه،  ويعرض نقد نيتشه للموسيقيِّ (فاغنر) بعد عهد صداقة امتدَّ سنوات، وهذا يرتبط ارتباطًا موثَّقًا بالتطور الفلسفي لدى نيتشه ويُعدُّ نقطةً مركزية أيضًا؛ فقد كانت فلسفته تشبه مطرقةً تضرب المسلَّمات ثم تضرب حاملَها.

وبنظرة موضوعية يُعبِّر شتاينر عن أنَّ شخصية نيتشه لم تُبنَ  ليُطلق الأشكال الهيكلية الثابتة  للتفكير أو لصياغة العقد الاجتماعي، وهذا ما يُساء فهمه في بعض الأحيان من القارئين له والمُستمدين حكمتهم منه؛ بل ليُطلق الفردانية الفكرية المُتحرِّرة من القيود ناكرًا كل شكل قطيعي للتفكير والمعرفة والحكمة وتبعية الفرد لإحداها، وقد طلب نيتشه من تلامذته مرارًا وتكرارًا أن ينبذوه لا أن يقدِّسوه، وقال "أفضِّل أن تعدُّوني مهرجًا على أن تعدُّوني قديسًا"؛ إذ إنَّه يرى كل نوع من التبعية المعرفية أو اليقين تجاه الوجود أنَّه سبيل للضعفاء غير القادرين على مواجهة اللاحقيقة الكامنة في كل شيء، وأنَّ الإنسان الحُرَّ لا يستقبل الحقيقة بل يصنعها، فلا يسمح لنفسه بذلك أن يكون تابعًا مُطيعًا للمسلَّمات من الحقائق والقِيَم.

ويستشهد (رودولف شتاينر) بقول نيتشه:

"إنَّ طموحي هو أن أقول في جمل عشر ما يقوله الآخرون في كتاب كامل، أو بكلمة أكثر صوابًا ما لا يستطيع الآخرون في كتاب بأكمله."

ليبيِّن عُمْق النصوص النيتشوية عن أيِّ فهم سطحي قد يطرأ عند القُرَّاء والدارسين له، وحسب رأي شتاينر، فإنَّ هذا ما يجعل منه فيلسوفًا غيرَ منهجيٍّ؛ بل شاعرًا وأديبًا ومُفكِّرًا تحوَّل إلى علبة ديناميت فلسفية كما وصف نيتشه نفسه أيضًا، إضافة إلى أنَّه يُمكن لنا اليوم وصفه عند متابعة الجدل فيما يتعلق  بأفكاره.

بينما في النصف الثاني من الكتاب وهو الأكثر أهمية نسبةً لفلسفة نيتشه، يطرح شتاينر مسألة الإرادة والقوة عند فريدريك، وهنا لا يكتفي شتاينر بذكر اقتباسات نيتشه وتحليلها؛ بل يذكر اقتباسات الفيلسوف نيتشه ومجموعةً من الفلاسفة المعاصرين له فيما يتعلق بإرادة الإنسان ونشاطه والقوة التي تجرُّه للخوض في ذلك أيضًا، ويصبُّ ذلك -في نهاية المطاف- في تحليل مفهوم الإرادة عند نيتشه، وعلى الرغم من أنَّ هذه الطريقة قد تُسبِّب للقارئ بعض التشتيت في البداية، ولكنَّها تنصِّب الأمور في ميزان المقارنة لمفاهيم الإرادة والسلوك البشري ومنبع السمات الأخلاقية، فلا يطول الأمر حتى يتوضَّح ماذا يعني نيتشه بأن يجعل المرء من نفسه سيدًا ومُمتلكًا لإرادة القوة، وقد يصعب تفسير ذلك دون الاستفاضة بالشرح الذي يَبرع به شتاينر في هذا العمل.

ويُخرِج (رودولف شتاينر) نفسه من موضع المُحلِّل والمنقِّح لفلسفة نيتشه ليلتزم بموضع آخر، وهو معاملة فلسفة نيتشه كمعضلة سيكولوجية، ومن هنا يشرح مجموعةً من التناقضات والمجابهات بين نيتشه وذاته، ويوضِّح أثر المرض في نفس نيتشه والذي قُدِّس من نيتشه نفسه؛ إذ يقول في مذكراته التي نُشرت في كتابه (هذا هو الإنسان هنا):

"الفيلسوف الذي شقَّ طريقه عن طريق التغيرات التي اعترت حالته الصحية، دون أن يتوقف عن السير في طريقه، لابد أنَّه اخترق أنماطًا متعددة من الفلسفة، وهو لا يستطيع أن يفعل شيئًا سوى أن يحوِّل في كل مرة ضالته وأبعاده الروحية إلى أشكال، فإنَّ الفلسفة ليست  شيئًا سوى فن التحويل هذا."

ولهذا ترتبط فلسفة نيتشه بفهم حالته السيكولوجية والفيزولوجية دائمًا، وربما هذا ما يفسِّر النبض الحساس والشعري في نصوصه كونها تنطلق من باطنه المُمتلئ بالغرائز والأرق والألم تجاه كُتبه دون أن تمرَّ على منهج واضح الملامح، ويقول (رودولف شتاينر) بصدد ذلك:

"لا يمكن فهم التناقض البالغ لدى نيتشه إلا إذا أخذت حالته الجسمانية بعين النظر."

أقسام الكتاب:

معلومات الكتاب:

شتاينر، رودولف. نيتشه مكافحًا ضدَّ عصره، ترجمة: حسن صقر.سوريا: فواصل للنشر والتوزيع، طـ1، 2019. عدد الصفحات: 230.