الفلسفة وعلم الاجتماع > الفلسفة السياسية

الخوف أساس نشوء الدولة برؤية توماس هوبز

"إن السبب النهائي والغاية وهدف البشر -التوّاقين بطبيعتهم إلى الحرية وممارسة السلطة على الآخرين من خلال فرض قيد على أنفسهم،والذي يجعلهم يعيشون بإطار الدولة- يكمن في التحسّب لما يضمن المحافظة على أنفسهم وتحقيق المزيد من الرضا في الحياة. وبعبارة أخرى يكمن هدفهم في الخروج من حالة حرب الكل ضد الكل، والتي هي نتيجة ضروريّة للأهواء الطبيعية التي تُسيّر البشر، عند انتقاء قوّة فعليّة تنظّم حياتهم، وتجعلهم يحترمون تنفيذ التعهدات التعاقديّة خوفًا من العقوبة".[1]

 

قامت فلسفة هوبز على إلغاء الافتراضات السائدة في عصره عن المشاعر، والتخلي عن المُثُل العُليا المستندة إلى علم النفس، فقد صوَّر هوبز المشاعر محدداتٍ طبيعيةً فهي مناسبة للسلوك، وهي مقاييس المصلحة الذاتيّة التي يجب على الإنسان (بدلاً من تجنبها) تبنيها بحقّ. فربَط المشاعر والسعادة بعلاقة حركيّة وهو يعدُّ السعادة انتقالاً مستمرّاً للرغبة من موضوع لآخر[4]، وفي هذه العلاقة الحركية يكون بلوغ الموضوع الأول طريقاً نحو الموضوع الثاني بلوغا مستمراً، ولذلك فإن موضوع رغبة الإنسان ليس أن يستمتع برغباته مرةً واحدة، بل في أن يضمن استمرار الطريق نحو رغباته المستقبليّة، لذلك فأفعال البشر الإرادية وميولهم لا تتجه فقط نحو امتلاك الحياة السعيدة بل كذلك إلى ضمان استمراريتها. ومنه يكون مفهوم السعادة لا يقتضي راحة البال، فلا وجود لشيء مثل الغاية القصوى، أو الخير الأكبر، والإنسان إن انتهت رغباته لا يُمكن أن يعيش.[1]

جذبت مؤلفات توماس هوبز -التي تركز في غالبها على أساس الفكر السياسي الحديث- انتباهَ العديدِ من المنظّرين السياسيّين والفلاسفة أمثال جون لوك وجان جاك روسو وكانط وجوديث شكلار وغيرهم، خصوصاً فيما يتعلق بسُبل تحقيق السّلام في المجتمع البشري وحل معضلة الحرب الدائمة، مُسبباً بأعماله صدمةً لكثيرٍ من العامة الذين لم يتصوروا لقرون التشكيك في مصدر القوة الإلهيّة للحُكّام، فقد كان مُبدداً الاعتقاد السائد بأنه على الأفراد أن يطيعوا الحاكم المُعيّن من الإلَه (كما يعتقدون) وإلّا سيكون الجحيم مصيرهم، بل كان هوبز يرى القضية معقّدة أكثر من ذلك ولهذا فكّك هذا الاعتقاد المشترك حتى نالت فكرته فيما بعد شعبيةً من العامة[5] وصاغ ما يُسمى بـ (السيادة عن طريق المؤسسة) أي تعهد الأشخاص بعضهم لبعض بطاعة سلطة واحدة ومشتركة فيما بينهم مُقابل الحماية التي ستؤمّنها هذه المؤسسة، مُرسين بذلك ما يسمى (السيادة بالحيازة) وهذا كله تحت دافع أساسي ومُشترك فيما بينهم هو (الخوف) سواء من المعتدين الداخليين أو الخارجيين (الغزاة)[3] فإن الرغبة في الراحة والمتعة الحسيّة، والخوف من الموت أو الإصابات، تجعل الناس مستعدّين لأن يطيعوا سلطةً مشتركة مقابل الحماية وضمان استمرار الراحة.[1]

وبهذا كان لدى هوبز أساس في نشوء الدولة، وهي أنّ الخوف المشترك، والخوف من الموت العنيف، هما ما دفعا إلى ولادة مفهوم الدولة، فإن التوق إلى العيش بأمان وترتيب أولويات الحياة جعلت كل فرد يشكّك ويفكّر بالبحث عن مجموعة شروط وخيارات لا تكون ضمنها حياته في خطر، فكانت سيطرة الفرد على الآخرين، ثم خوف الآخرين منه، وهي إحدى هذه الخيارات، لكن إن نظرنا إلى هذا الخيار جيداً سنجد أنه سيبوء في النهاية بالفشل؛ فتبعاً له سيفكر كل شخص في الهيمنة والسيادة لنفسه على الآخرين، لذا ونتيجة لانعدام الثقة المتبادل جراء ذلك ليس ثمة سبيل معقول أكثر من التحسّب لكي يضمن الإنسان أمنه والقضاء على كل قوة يمكن أن تُشكل خطراً عليه، وهنا يعود مفهوم (حرب الجميع ضدّ الجميع) مجددًا[5][1]، ومن أجل هذا انبثقت لدى المجتمع الحاجة إلى اختيار شخص ما ومنحه القدرة على تنفيذ القانون تجاه الجميع مُشكلين ما يُسمى بالعقد الاجتماعي الذي يتضمن كُلّاً من التخلي عن الحق الطبيعي في الهيمنة والسيادة أو تفويضه إلى السلطة؛ ويكون التخلي عن الحق بأن يحرم المرء نفسه من حرية عرقلة الآخر من الاستفادة من حقّه في الشيء نفسه، وبذلك فإن المرء عندما يتخلّى عن حقّه (الذي هو حقّ الآخر أيضًا) أو يفوضّه إلى السلطة، يكون قدّ تنحى جانبًا للآخر ليضمن أن الآخر لن يعرقله أيضًا، ويكون بالتفويض حين يريد لشخص أو لأشخاص معيّنين أن يستفيدوا منه. وحين يكون الإنسان قد تخلى عن حقّه أو أعطاه بطريقة من هاتين الطريقتين، يكون عندئذِ ملزماً ومجبراً ألّا يعيق من أُعطي أو تُرك له هذا الحقّ في استفادتهم منه؛ وإن من واجبه ألّا يبطل فعله الإرادي هذا؛ وإن إعاقة كهذه هي ظلم وأذية لأنها بلا حقّ، وبما أن الحق قد  تُخِلَّيَ عنه وفُوِّضَ سابقاً ففي كل مرة يفوّض الإنسان حقّه أو يتخلّى عنه يكون الأمر إمّا من أجل حقٍ فوض إليه بالمقابل أو من أجل خيرِ آخر يأمله من وراء ذلك[1]؛ إذ يضمن هكذا العقد الاجتماعي الطّاعة والنظام من خلال الخوف من القوانين بمجرد ولادة الدولة، وينتشر هذا الخوف من العقاب بوسائل التعليم لأن استمرارية الدولة لا يمكن أن تستند فقط إلى الخوف من القوانين والعقاب، بل يحتاج الأفراد إلى التعليم حتى يفهموا معنى كونهم مواطنين ملتزمين بالقانون من أجل الصالح العام.[5]

 ومن المهم أن نذكر هنا أن الحكومة لدى هوبز لا تعتمد على مبدأ الشرعية السياسية للوصول إلى السلطة؛ بل تعتمد فقط على ما إذا كان بإمكانها حماية هؤلاء الذين وافقوا على طاعتها، وينتهي الالتزام السياسي فيما بينهم عندما تتوقف هذه الحماية. ويرى هوبز أن للأفراد الحق في الدفاع عن أنفسهم ضد السلطة عندما تكون حياتهم في خطر، أو إن قصَّرت السلطة في تأمين الحماية لهم، وقد أثارت هذه الاستثناءات "الحريات الحقيقية للمواطنين" دارسي فلسفة هوبز في كونها لا تتفق مع السيادة المطلقة للسلطة التي نادى هوبز بها، كما تساءلوا أنه "فيما إذا أخفقت السلطة في تأمين الحماية الكافية للمواطنين من خلال إجبارهم على طاعتها وتُرك الأمر لكل خاضعِ للسلطة في الحكم على كفاية الحماية هذه لنفسها، ألا يبدو الأمر هنا أنهم لم يخرجوا إطلاقاً من حالة الطبيعة المخفية؟"[3] 

سلّط هوبز في فلسفته الضوء على معاني الخوف المختلفة، وفيما يرى بعض النقاد أن الفلسفة السياسية لهوبز تقتصر على القرن السابع عشر إلا أن انعكاسات مدرسة الفكر الهوبزي وفلسفته في الطبيعة الإنسانية والعقد الاجتماعي المبني على الخوف المشترك لا تزال مثيرةً الاهتمامَ للأوساط الأكاديمية.[4]

المصادر:

[1] هوبز، توماس، اللفياثان؛ الأصول الطبيعية والسياسية لسلطة الدولة، ديانا حبيب حرب، بشرى صعب، مراجعة وتقديم: د.رضوان السيد، هيئة أبوظبي للثقافة والتراث (كلمة)، الإمارات العربية المتحدة. الفارابي، بيروت-لبنان، 2011. صـ 175، صـ 104، صـ 141

[2] هنا

[3] هنا

[4] هنا

[5] هنا