كتاب > الكتب الأدبية والفكرية

مراجعة كتاب (الإسكندر الأكبر؛ فتوحاته وريادة الفكر اليوناني في الشرق): تلميذ أرسطو ومؤسسة الإسكندرية

وحَّد الإسكندر المقدوني -المُلقَّب بـ(ذو القرنين) أو الإسكندر الأكبر- ما بين الشرق والغرب، واستطاع فتح الأراضي التي كانت خاضعة للفرس بأكملها في سنوات معدودة، بدءًا من مصر ووصولًا إلى بلاد الرافدين، إضافةً إلى مدن ساحل البحر المتوسط كلها إلى حدِّ التوقُّف على أعتاب الهند، وهذا من بعد عصور ظُلمةٍ طويلة كانت قد مرَّت عليها؛ وذلك ما يُثير التساؤل عن أهم الأسباب التي أدَّت إلى نجاح الإسكندر في رحلته القيادية هذه، إضافةً إلى أنَّه يُثير التساؤل عمَّا امتلكه الإسكندر وما لم يمتلكه أيُّ قائد آخر، وما جعل اسمه بصمةً في التاريخ من الصعبِ أن تُمحى، وهذا بدوره يدلُّ على الازدهار الفكري لدى الحضارة اليونانية ومدى عمق تأثيرهم في الحضارة الشرقية أيضًا.

وتتضح هذه الدلالات في عصر يُعدُّ واحدًا من أكثر العصور البشرية تداخلًا فيما بينها من ناحية اختلاف الثقافات والشكل الحضاري، ويبدأ الكتاب بالإجابة عن أسئلتنا -من هذا المنطلق- بتقسيمٍ منطقي، بدءًا من التركيز على المرحلة (الهيلنية)؛ لكونها المرحلة الأهم والتي تضمُّ فئةَ الشخصيات المهمة من أفلاطون وأرسطو إلى الإسكندر، وانتهاءً بالمرحلة الثانية والتي هي المرحلة (الهيلينسية)؛ التي تفضي بآفاقها إلى الحضارات العربية الإسلامية أولًا.

المرحلة الهيلنية:

وهي المرحلة اليونانية الصرفة، وفيها يتناول الكتاب دراسةَ العوامل التي ساعدت الإسكندر على تحقيق النجاح في مسيرته؛ ومنها الإنجازات الضخمة التي حقَّقها أبو الإسكندر (الملك فيليب)، والتي مهَّدت السبيل لتوحيد الجزر اليونانية؛ مثل تنظيمٍ للجيش، وتربيةٍ وتعليم مُتميِّزين للإسكندر على يد أرسطو، إلى توحيدٍ لكثير من الجزر اليونانية في النهاية، إضافةً إلى العناصر المُميَّزة التي امتلكها الإسكندر والتي جعلت اسمه يُخلَّد؛ مثل الفطنة والذكاء في التخطيط العسكري، ويتجسَّد ذلك في شرح الكتاب لبعض معارك الإسكندر والأزمات التي تعرَّض لها؛ كالمشكلات التي وقعت بين اليونانيين والفرس ومشكلات الانقلاب التي كانت تحدث في اليونان باستمرار، ويُشير الكتاب إلى الأسباب التي أوقفت الإسكندر عن تحقيق مراده النهائي أيضًا، والتي كان أبرزها عدم انصياع جيش الإسكندر لرغبته في التوغُّل باتجاه الهند أكثر، وإدارته للجانب الاقتصادي للدولة العالمية، وهي الدولة التي تُشكِّل حصيلة الأراضي الخاضعة لحكم الإسكندر.

ويتطرَّق الكتاب إلى شرح التكتيكات الحربية التي اعتمدها الإسكندر، والتي كان لها الأثر البارز في تحقيق النصر؛ مثل استغلال نقاطِ ضعف ميمنة العدو، وتنظيم فرق تتَّسم بالخفَّة، ولم يكتفِ الكتاب بظاهر الإسكندر، بل خاض في أعماقه، حينما سرد لنا قصصًا ومواقف أخطأ فيها الإسكندر، مع تحليل تأثير والدته (أولمبياس) فيه، والتي كانت ذات طابع سادي مُحبٍّ للقتل والتعذيب، وهذا ما اتَّخذ زاويةً من ذات الإسكندر أيضًا، ومن هذه المواقف قتلُه واحدًا من أهم أذرعه القيادية (كيلتس)، والذي كان قد أنقذ حياة الإسكندر فيما سبق في معركةٍ ضدَّ الفرس.

وقد سعى الإسكندر إلى تحقيق المزج الثقافي الكلي، ولا سيما بين اليونانيين والفرس عن طريق محاولةِ حلِّ مشكلة كُرْه اليونانيين للفرس، وترتيب مقاعد السلطة ترتيبًا متأنِّيًا وحكيمًا حينما وضع المناصب العليا في يد المقدونيين، وعيَّن مراقبًا مقدونيًّا على كل فارسي، علاوةً على مشاركة الفرس وغيرهم من الشعوب التي خضعت للإسكندر حينما مزجت السرايا مع هذه الجنسيات المختلفة كلها، وحينما استُفيد من بعض التكتيكات العسكرية الخاصة بالشعوب التي أُخضعَت؛ مثل إستراتجية سرايا الفرس التي كانت تنفِّذ عمليات المداهمة السريعة.

واتخذ سياسة القضاء على الفساد أساسًا عندما وضع قوانينًا صارمة بهذا الشأن، وقد أدَّت إلى إعدام كثير من الفرس وبعض من المقدونيين الذين كانوا قد أفسدوا مال خزينة الدولة، ويقول الإسكندر بهذا الشأن:

"إنني لم آتِ إلى آسيا لأخرِّب أو لأحوِّل نصف الأرض إلى صحراء، بل لأجعل الشعوب التي أُخضعها لا تأسف لانتصاري."

ونجد الكتاب -في الجهة المقابلة- قد تطرَّق إلى أفلاطون وأرسطو وعلم المنطق ونقاط الاختلاف والتشابه بينهما، والمدارس التي تأسَّست على أيديهم أخيرًا، مع لمحة إضافية عن المدارس اليونانية الأخرى، والتي لا تقل أهمية عن تلك المذكورة، وعلاوةً على ذلك، فإنَّ الكتاب يقدِّم حججًا وبراهين تتناول مؤلفات أرسطو وترتيبها وما وفَّره الإسكندر من تسهيلات وعيِّنات لأرسطو من أجل بحوثه.

ولا بد من الحديث في هذا القسم -تحديدًا- عن مرعى الكُتَّاب الأخصب، ألا وهو نقطة تأثُّر اليونانيين في الشرق، ولا سيما مصر وبلاد الرافدين؛ بدايةً من إنهاء عصور ظلمةٍ كان قد فرضها الفرس طويلًا على تلك الدول وبناءِ مدن كاملة من جديد، ووصولًا إلى تشكيل أهم مكتبة إنسانية في ذلك الزمان ضمن مصر؛ ألا وهي مكتبة الإسكندرية.

المرحلة الهيلينسية:

وهي القسم الأضيق ضمن الكتاب، وفيها نستعرض حال الدولة العالمية من بعد فقدانِها لمؤسِّسها، وهذا يشمل مراحل الضعف والانقسامات والخلافات فيما بين حُكَّامها الجُدد، وانهيارات اقتصادية وخيانات أدَّت إلى اغتيال ابن الإسكندر، إضافةً إلى محاولات يائسة لإعادة الأمجاد تمثَّلت بسعي (كراتيرس) للتوحيد، والمعارك التي بَترت يد اليونانيين في الشرق مُنهيةً بذلك واحدةً من أعظم الدول أخيرًا، وقد أثَّر ذلك في المدارس الفلسفية أيضًا من بعد فقدانها لمؤسِّسيها، فعانت من تراجع وتأرجح ومن انحصار للمنهجية العلمية ضمن اليونان مُقارنةً بالتقدُّم الكبير الذي استمر ضمن الإسكندرية.

وتحدث الكتاب عن رحلة حياة عدد من الفلاسفة العظماء الذين لم تُتاح لهم الفرصة لتخليد أسمائهم مثل معلميهم، وتمعَّن في الحديث عمَّا وصلنا من مؤلفات أرسطو وقارنها مقارنةً سريعة بمؤلفات أفلاطون، بالإضافة إلى مقارنة جانبي المنطق والتأمل بنتائج الاختلاط الثقافي، والتطرُّق إلى ما يظهر من تفرُّعات؛ كالتنجيم والخيماء وما بين مُفترقات المجالين.

ويتطرَّق الكتاب إلى إشكاليات وجدليات تتعلق بكتب بالخيماء -نُسِبت إلى مؤلف ما- وإلى الظروف التي أحاطت بذلك المجال وأدت إلى ضياع كمٍّ هائل من المعرفة، وهو المجال الذي مهَّد لأساس الكيمياء الحديثة، وأضف إلى ذلك شرحًا وافرًا لظاهرة التنجيم التي استطاعت كسب تأييد كثيرٍ من الحكام والتي نجحت في النجاة من الاندثار حتى أيامنا هذه، وقد عرض الكتاب بعضًا من أشهر الكتب في هذا الشقِّ، لتنتهي رحلتنا مع عصور الدول الاسلامية والمفكرين العرب الذين استفادوا من الحضارة اليونانية كثيرًا.

ويجب علينا التنويه -ختامًا- إلى الصياغة التي اتَّبعها الكتاب في الطرح، وهي صياغة تتَّسم بالتسلسل والبرهان والوصف المنطقي والخلوِّ من التعقيد والتَّشتُّت والإسهاب، بالإضافة إلى أنَّها مُدعَّمة بكمٍّ وافر من المراجع العربية والأجنبية، فكان منها الداعم ومنها المُغني للمحتوى الذي تضمَّنه هذا الكتاب.

معلومات الكتاب:

الأب متوديوس، زهيراتي، الإسكندر الأكبر || فتوحاته وريادة الفكر اليوناني في الشرق، دمشق، دار طلاس للدراسات والترجمة والتوزيع، ط1، 1999/1/6