كتاب > روايات ومقالات

مراجعة رواية (الحمامة): عن الأحداث غير المتوقعة

اشتهر الكاتب الألماني (باتريك زوكسيد) بروايته "العطر"؛ الرواية التي تقرأ بالأنف لا بالعين، ففيها قدم زوكسيد تاريخ العطر وصناعته في فرنسا في حبكة ذكية أساسها شغف البطل الذي وصل إلى حدِّ الهوس وتحوَّل إلى القتل.

ولعلَّ دراسة زوكسيد التاريخَ في جامعة ميونخ كان لها التأثير في عقلية كتابته المؤرِّخة للأشياء كلها، فنجده في روايته "الحمامة" -التي تُعدُّ رواية قصيرة- يسرد الأحداث بأمانة المؤرخين ليستطيع قارئه تخيُّل الأمكنة التي يصفها بأدق التفاصيل وكأنَّه يرى البطل أمامه يتحرك ويحكي ويفكر بشفافية مطلقة.

وينتاب قارئ رواية "الحمامة" التي تمتد لـ85 صفحة شعورٌ باللاجدوى، بدءًا من الحَدَث الأساسي التي سُميَّت الرواية باسمه وهو ظهور الحمامة مرورًا بالوصف الدقيق لحياة البطل، وانتهاءً بعودته إلى نقطة البداية في دائرةٍ شبه فارغة. 

فالبطل (جوناثان نويل) شخصية هادئة منعزلة رتيبة، ردَّات فِعلها معروفة، ولا تمرُّ بتطور ملحوظ على امتداد الرواية، وإنَّما مجرَّد استعراض لمنعكساتها على الأحداث التي تجري في العالم الخارجي، وقد تُلخَّص بالجملة الافتتاحية للرواية "كان جوناثان نويل قد تعدَّى الخمسين من عمره، عاش منها عشرين عامًا خلت من أيَّة أحداث، حتى فاجأته مشكلة الحمامة التي ذهبت بين ليلة وضحاها بالأمان الذي كان يحياه"، فبعد وصف زوكسيد لطفولة جوناثان الصعبة ومعاناته في فَقْد أهله وتشرُّده، ثم خدمته العسكرية وزواجه المُخطَّط له، والذي انتهى بهرب الزوجة؛ التي أنجبت بدورها بعد مضي العرس بأربع شهور من عشيقها، ووصولًا إلى استقراره في عمله حارسًا لبنك، والتخطيط لشراء الغرفة التي استأجرها في مبنى يقع في شارع دولابلانش.

وهكذا، تتكوَّن عند القارئ فكرة عامة عن جوناثان؛ فكرة عن العالم المنعزل الذي خلقه بعيدًا عن البشر، وعن الأمان المُتمثِّل في غرفته التي يعدُّها جنةً، وحياتِه الروتينية التي اعتادها.

وفي يوم من الأيام، عند استيقاظ جوناثان وتوجُّهه إلى المرحاض المُشترك في المبنى وتأكُّده من خلو الممر من أيٍّ كان، يُفاجَأ عند فتح باب غرفته بوجود حمامة تَبعد عدة خطوات تحدق به عدة ثوانٍ؛ ممَّا يجعل عالم جوناثان ينهار انهيارًا غير مُفسَّر، ليغرق بعدها في أفكار مذعورة غير منطقية عن كيفية خروجه من هذه المصيبة وعن تغيير سكنه وما ستؤول إليه حياته بعد ظهور الحمامة في حياته وأمام غرفته.

إنَّ ظهور الحمامة يُشكِّل الحدث الأول من سلسلة من الأحداث التي تمتد يومًا كاملًا، والتي تُخلُّ توازنه النفسي أحداثٌ قد تكون عادية تحدث مع الجميع، ولكنَّها قد تمثل نهاية العالم لبطلنا جوناثان؛ فظهور الحمامة يدفع جوناثان إلى التحدُّث مع مديرة العمارة لأول مرة وهو فعلٌ صعب جدًّا، ونلاحظ تنفيذه المُرَّ وغير المتقن، ليعاني طوال النهار من تشتُّت في تفكيره واضطراب في وقفته أمام البنك وقلة انتباهٍ لوصول سيارة السيد رودلز.

ويستمر النهار، فيذهب جوناثان في استراحة الغداء لحجز غرفة في أحد الفنادق ويتناول غداءه في إحدى الحدائق، وعندها يحدث ما يجعل عالم جوناثان يترنَّح في فضاء من الحظ العاثر؛ إذ يُشقُّ طرف جيبه تاركًا فتحة كبيرة في بنطاله، نعم، قد يكون هذا الموقف محرجًا لأيِّ شخص، ولكنَّه كان مرعبًا ومخيفًا لجوناثان.

وكأيِّ شخص تعرَّض للتوِّ لموقف مخجل، فكر بطلنا في كيفية حلِّ المشكلة، فتوجه إلى إحدى الخياطات في شارع دوباك، ولكنَّها لم تسعفه بأيَّة مساعدة، فعاد إلى عمله مع حلٍّ مؤقت.

ولعلَّ الذروة في الأحداث لم تكن حدثًا عاثرًا ممَّا حدث لجوناثان، بل بالتحوُّل الغريب لمشاعر الرعب المسيطرة عليه إلى مشاعر سخط وغضب عارمة، إضافةً إلى وصفٍ دقيقٍ للحالة النفسية الهائجة لبطلنا وترجمة غضبه إلى أفكار عنيفة تُغرق المدينة أمام عينيه بما يشعر من خزي وسوء حظ.

وبعد انتهاء هذا اليوم البشع وتوجُّهه إلى غرفته في الفندق ومُضيِّ ليلة من الأفكار السوداوية كـ"غدًا سأنتحر"، يستيقظ فجرًا ويذهب إلى بيته أو غرفته بالمعنى الأدق، في تحدٍ قوي لوجود الحمامة ورغبة في المواجهة، فما الذي ينتظره؟

إنَّ رواية "الحمامة" قدمت فكرةً وحيدة عن المشكلات الصغيرة التي قد تواجهنا في حياتنا اليومية وتعكِّر صفو رتابة شؤوننا، وقد خَلَت من الحوارات واستندت إلى بطل واحد؛ ممَّا أضعف عنصر الجذب، بالإضافة إلى الوصف الدقيق الذي قد يكون مُملًّا للبعض في غياب الأحداث المثيرة أو الأفكار المهمة. 

معلومات الكتاب:

زوكسيد، باتريك، الحمامة، المترجم: عدنان عبد السلام أبو الشامات، دمشق، ورد للطباعة والنشر والتوزيع، ط1، 1999.