البيولوجيا والتطوّر > التطور

أصل الإنسان الحديث يضرب عمق التاريخ متجاوزاً (لوسي)

كان العِلم -ولا يزال- مجموعةً من المعلومات والنظريات والخبرات المتناغمة، بواقع محايد مُشاد على إثباتات وبراهين وسلَّم تراكمي؛ فهو يُضيف المعلومات الجديدة الصحيحة إلى المعلومات القديمة ويُنقِّحها ويزيد من دقَّتها.

وأجمل ما فيه هو تجدُّده وتطوُّره الدائم وقابليَّته لتصحيح نفسه؛ إذ بُنيَ منذ الأزل على منهج الملاحظة والفحص والتجريب وصولاً إلى وضع النظريات.

حازت الأحفورة الشهيرة لوسي Lucy اهتمامَ العامة بصفتها أوَّلَ قرد يكتسب القدرة على المشي، فقد عُدَّت سلفاً مباشراً للإنسان الحالي؛ لكنَّ الجمجمة المكتشفة حديثاً في أثيوبيا -التي تعود إلى أحد أسلاف الإنسان البدائي- ستجعلنا نُعيد النظر في رؤيتنا الحالية.

اكتشف الباحثون أحفورةً تعود إلى 3.8 مليون سنة لجمجمة تنتمي إلى النوع Australopithecus anamensis، وما يُميِّز هذه الأحفورة أنها محفوظة بطريقة استثنائية، وهو أمر نادر الحدوث لدى أحفورة بهذا العمر، وتُوضِّح الجمجمة جيداً تفاصيلَ وجه هذا النوع للمرة الأولى.

وكان يُعتقد سابقاً أن هذا النوع قد عاش قبل نوع الأحفورة لوسي Australopithecus afarensis، وتحول تدريجياً إلى النوع المذكور؛ وهذا يعني ضمناً أن النوعين لم يوجدا في الفترة نفسها إطلاقاً.  ولكن يُثبت الاكتشافُ الحالي أن النوعين قد تشاركا البقعة الجغرافية ذاتها في أثيوبيا مدة مئة ألف سنة على الأقل، وقد يُشير هذا إلى أن الفروع القديمة لشجرة الإنسان التطورية أكثرُ تعقيداً مما اعتقد العلماء سابقاً.

ويرى بعض الباحثون -في ضوء هذه المعطيات- أنه من المحتمل أن هذين النوعين قد تعايشا في المكان ذاته فترةً من الزمن، ويرى فريقُ البحث أن الاكتشاف لا يلغي فكرة نشوء نوع لوسي A. afarensis عن النوع A. anamensis، ولكن هذه الجمجمة تطرح فرضية أن نوعَ الأحفورة لوسي A. afarensis قد يكون نشأ عن النوع السابق عن طريق حدث استنواع (speciation event) بدلاً من التحول التدريجي؛ وذلك يعني الآتي: تصبح مجموعة من أفراد النوع A. anamensis معزولةً وراثياً عن بقية الأفراد، وتتطور هذه المجموعة المعزولة إلى النوع A. afarensis بعد فترة، وفي نهاية المطاف يسود النوع الجديد ويتفوق على النوع السابق الذي يتلاشى بدوره.

ويرى باحثون آخرون أنه من الصعب الجزم لصالح أي من الفرضيتين حالياً، وأيضاً يرى بعضُهم أن هذه الأدلة لا تزال غير حاسمة وغير كافية لإعادة النظر في أصل لوسي، وهي التي تُعدُّ مهمة جداً لفهم أصل الإنسان.

تأتي أهمية هذا الاكتشاف من كونه يشير إلى احتمال حدوث تداخلات إضافية مع أنواع متقدِّمة أُخرى من أشباه القرود؛ ما يزيد عددَ المسارات التطورية المُحتمَلة لظهور الإنسان الأول.

إنَّ ما تخبرنا به هذه الجمجمة هو قصة التطوُّر؛ مستخدمةً أسلافاً مختلفة عن التي ألِفناها، وتوضح أن نشأة الإنسان أكثر تعقيداً وإثارةً للاهتمام، لكنَّها لا تدحض كون نوع (لوسي) قد تطوَّر إلى مجموعة البشر؛ إنما تضعنا أمام مزيد من الاحتمالات الأخرى التي تتطلَّب مزيداً من البحث ومزيداً من المعلومات للوصول إلى الحقيقة المرجوَّة وحلقة الوصل الحقيقية من هذه الأنواع إلى الإنسان الحديث.

المصادر:

هنا