كتاب > الكتب الأدبية والفكرية

مراجعة كتاب (التخلُّف الاجتماعي؛ مدخل إلى سيكولوجية الإنسان المقهور): ما بين التسلُّط والقهر يولد التخلُّف (الجزء الأول)

تُحمل بين دفتي هذا العمل حاجةٌ للفِكر الاجتماعي المعاصر؛ تنقله من مرحلة التخلُّف إلى مرحلة الارتقاء عنه وتخليص أفراده من القهر والهروب من واقعهم، وذلك ما يجعل هذا العمل كتابًا يُدرَس ويُدرَّس، ويقول د.حجازي:

"ليس تجاوز التخلُّف بالأمر السهل نظرًا لرسوخ خصائصه وأوَّلياته في أعماق النفس على المستوى الفردي، وفي مختلف مظاهر البنية الاجتماعية على مستوى المجتمع."

فالدكتور (مصطفى حجازي)؛ الحاصل على الدكتوراه في علم النفس من جامعة ليون الفرنسية يقدِّم إلينا هذه الدراسة الدقيقة الواقعية للبُنية النفسية والتكوين الذهني للإنسان في المجتمع المُتخلِّف بواسطة تحليل دقيق وشامل، وذلك عن طريق طَرْحٍ منهجي لسيكولوجية الإنسان المقهور، وما يتَّخذ من أساليب دفاعية لعلَّها تُعيد إليه شيئًا من قيمته الوجودية المغبونة، وتنقذه من وضعه الوجودي المأزقي.

ويستهل الكتاب بمقدمة يشرح فيها أهميةَ هذه الدراسة في طَرْح منهجيةٍ في علم النفس؛ تدرس سلوكيات الإنسان المقهور على أنَّها أول عناصر التخلُّف الاجتماعي، فتتناول خصائص وجوده في المجتمع على اختلافها؛ إذ لا سبيل إلى التنمية دون أخذ السلوكيات الفردية محورًا أساسيًّا للفهم، ويشير الدكتور حجازي إلى أنَّ هذه الدراسة تطمح إلى "فتح الطريق أمام أبحاث نفسية ميدانية" تُكمل غاية هذه الدراسة، وتجعل المسيرة إلى الارتقاء مضمونة وأكثر وضوحًا.

وينقسم الكتاب إلى قسمين، وينتهي بمعجم للمصطلحات المرتبة ترتيبًا أبجديًّا تحوي الشرح الوافي للمصطلحات ذاتِ الطابع المُتخصِّص؛ ليتمكَّن القارئ من متابعة النص بسهولة وفهمه.

القسم الأول (الملامح النفسية للوجود المُتخلِّف): يسعى إلى رسم "صورة نفسانية حيَّة متكاملة وشاملة، ما أمكن، للوجود المُتخلِّف"؛ إذ يحاول الدكتور حجازي أن يُدخِل نوعًا من التنظيم المبدئي لما يبدو عشوائيًّا واعتباطيًّا في تصرفات الإنسان المُتخلِّف وممارساته، فنجده يرسم صورةً كاملة حركية تدرس بنية الفرد في المجتمع وعقليَّته، حتى يصل إلى ما يعتمل في لاوعيه.

ويقسم حديثه عن الوجود المُتخلِّف إلى أربعة فصول:

ثمَّ يعرض د.حجازي ثلاثة أنماط تحكم واقع الإنسان المتخلِّف:

أولًا: مرحلة القهر والرضوخ، وهذه المرحلة تتَّصف بالعجز والقصور على الأصعدة جميعها، وتبرز عن طريقها مجموعة العُقَد التي تميِّز حياة الإنسان المقهور، وأهمُّها عُقدة النقص، فهو يعيش حالةَ تهديد دائم لأمنه وصحته وقوته وعياله؛ ممَّا يجعل الخوف حاكمه، فيسيطر عليه شعورٌ بانعدام الكفاءة الاجتماعية والدونية، وتعمل الفئة المتسلِّطة على تغذية هذه العُقدة كي يظلَّ الإنسان في حالة من الاستكانة والتبعية.

وينتقل بعدها إلى عُقدة العار، فالإنسان المقهور يخجل من ذاته ويخشى انفضاح عجزه وبؤسه، فيتمسَّك تمسُّكًا شديدًا بالمظاهر التي تُشكِّل سترًا واقيًا لبؤسه الداخلي.

وأخيرًا، يتحدث عن اضطراب الديمومة، فانعدام الضمانات المستمرة -ماضيًا وحاضرًا- تصبغ المستقبل بالتشاؤم، فتنسدُّ آفاقه ويفقد الإنسان المُتخلِّف الثقة بالخلاص.

ثانيًا: مرحلة الاضطهاد، وهي المرحلة الوسطى بين الرضوخ والتمرُّد، وفيها إسقاط لمشاعر الذنب والتبخيس الذاتي على الآخر -الآخر المقهور أو الأكثر قهرًا- للتملُّص من العار الذاتي.

ثالثًا: مرحلة التمرُّد والمجابهة، وهي وصول المجتمع المُتخلِّف بالضرورة في مرحلة من مراحل تطوُّره إلى العنف، ويتوجَّه ضدَّ القوى المسؤولة عن القهر، ولكنَّ غياب الأُطُر المرجعية الجديدة والافتقار إلى التنظيم والوعي السياسي يوقِعُه في عقبة فعلية في وجه التحرُّر الحقيقي، وهذا ما يختم به الدكتور حجازي هذا الفصل.

" التخلف ظاهرة كُليَّة وعلاجها يجب أن يكون شموليًّا، يتنبَّه إلى كل مواطن مقاومة التغيير التي يتضمَّنها ويتصدَّى لها بنفس طويل، أشد نقاط المقاومة استعصاء على التغيير هي البنية النفسية التي يفرزها التخلُّف، بما تتميَّز به من قِيَم ونظرة إلى الكون، فكما أن الآلة نتاج التقنية المُتقدِّمة، قد يُعاد تفسيرها كي تُستخدم بشكل خرافي أو سحري في البلد النامي، كذلك عملية التغيير الجذري (الثورة) قد يُعاد تفسيرها كي تُمارس من خلال الأطر المتخلِّفة وتفقد بالتالي قدرتها التغيرية."

يُتبع في الجزء الثاني.