كتاب > الكتب الأدبية والفكرية

مراجعة كتاب "هرطقات2؛ عن العلمانية كونها إشكالية إسلامية-إسلامية": الهرطوقي من يُشعل المحرقة

من منطلق بعض الأدبيات العربية السائدة عن تصوُّر العلمانية على أنَّها إشكالية مسيحية-مسيحية جرى اختراعها في الغرب المسيحي لتسوية العلاقات بين طائفتين كبيرتين (الكاثوليكية والبروتستانتية) لوضع حدٍّ للحرب الدينية التي سادت أوروبا مئة سنة، يناقش طرابيشي الصياغة من منطلق مُختلف وهو العلمانية كونها إشكالية إسلامية-إسلامية عن طريق السجل التاريخي للحروب الدينية الإسلامية.

ويفتتح طرابيشي كتابه باقتباس لشكسبير:

"ليس الهرطوقي من يحترق في النار، بل الهرطوقي من يشعل المحرقة."

 ويراجع في البداية تاريخه الهرطوقي في تقديمه للعمل، ويتساءل: لماذا يغلي في دمه حبُّ الهرطقة؟ ويوضِّحُ كذلك بدايته مع الانفصال عن الفكر المقدَّس منذ مراهقته حتى غدا عميد النقَّاد العرب.

ويتألف الكتاب من 12 مقالًا يتطرَّق طرابيشي عن طريقهم إلى تحديد إشكاليات العلمانية كونها إسلامية-إسلامية، فيعرض تاريخ الحوار الثقافي العربي وتصوُّره أنَّ الإشكالية تدور بين الشرق الذي يمثِّل الإسلام، والغرب الذي يمثِّل المسيحية، وأنَّ أحدهما يريد إقصاء الآخر مُتحجِّجًا بالعلمانية، ويتجاهل حقيقة الطائفية الإسلامية الحاصلة في الدين الواحد، وبهذا يمثِّل طرابيشي أنَّ العلمانية ليست حلًّا بين الأديان المختلفة وحسب، بل بين طوائف الدين الواحد، ويوثِّق ذلك عن طريق مراجعة التاريخ الإسلامي وحروبه الإسلامية-الإسلامية التي افتقدت مفهوم العلمانية في الساحة السياسية العامة، والآن أيضًا، فإنَّ المجتمع -من وجهة نظر طرابيشي- ما زال يعاني من الطائفية المُعلنة في الدين الواحد (الإسلام)، وهذا ما ولَّد جرحًا عربيًّا يصعب أن يلتئم دون تجاوز تاريخه النازف بالحروب والتحريض واتخاذ مجرى الحداثة القطعية، والعلمانية على رأسهم.

ويتوجَّه طرابيشي في مقاله (الطائفية والعامل الخارجي) إلى دراسة حوليَّات ابن أثير، والتي تقدِّم ثلاثة أمثلة عن حروب طائفية إسلامية- إسلامية في الوطن العربي، ويقدِّم عن طريق هذه الأمثلة تفاصيل عن وقائع الاقتتال الداخلي والصراع على السلطة بين المسلمين والمسلمين، فيوضِّح بهذا أنَّ الفتن الطائفية الداخلية ليست من صُنْع الأجنبي ولا من توظيفه، بل هي التي توظِّف العامل الخارجي توظيفًا فئويًّا على مذبح اللحمة الوطنية والتعايش الاجتماعي.

ويشرح طرابيشي خطورةَ حرب الكلمات في إحدى مقالاته، فقد يكون هنالك ما هو أخطر وأفدح وأدوم أثرًا من حرب الأفعال، وهي حرب الكلمات/الأقوال؛ لأنَّ الدماء التي تُسفَك في كل حرب فعلية قد تجف مع دفن القتيل، وقد يسري عليها قانون التقادم الزمني فلا يبقى لها أيُّ أثر في الذاكرة بعد جيلين أو ثلاثة، ولكنَّ حرب الأقوال -ومنذ أن اكتُشِفت تقنية الكتابة- حربٌ قابلة للتجديد باستمرار ولا يسري عليها قانون النسيان ولا قانون التقادم.

ويُعبِّر طرابيشي عن العلمانية كونها جهادية دنيوية في كتابه عن طريق عشر أنواع للعلمنة، بدايةً من العلمنة الدينية وانتهاء بالعلمنة الجنسية، فيشرح كلًّا منها وينقِّح خواصها ومسيرها التاريخي، ويناقش طرابيشي في مقاله (مسألة الخلافة) مأزق الفكر السياسي العربي المعاصر، فمسألة الخلافة -حسب رأيه- هي مسألة سلطةٍ ولاهوت السلطة، وما زال أثرها حاضرًا.

ويضيء طرابيشي في مقاله (وثنية النص الأول) على مفهوم تديين الماركسية نقدًا وتحليلًا، وذلك عن طريق افتتاح مقاله باقتباسات للفيلسوف (روجيه غاودي)؛ الذي يطرح فكرًا مُعمَّقًا عن تديين الماركسية؛ إذ يقول:

"فعصرنا ليس ملحدًا؛ بل مشرك، فواحدية السوق تولِّدُ عبادة أصنامٍ شتَّة؛ صنم المال، وصنم السلطة، وصنم القوميات، وصنم الوثنيات."

ويُكمل طرابيشي قسمه الثاني تحت عنوان (ردٌّ على الرد من منطلق نقد الذات) ليتابع تحليل أفكار الفيلسوف (روجيه غاودي) من جهة، ونقد ذاته عندما كان ماركسيًّا (مثلهم) من جهة أخرى؛ ولكن، بالرد على نقدٍ طاله من (فاضل السلطاني) على مقالهِ الأول هذه المرة.

وينتقد طرابيشي في مقاله (شهادة نصير سابق للالتزام) الثقافةَ العربية المعاصرة الخاضعة بقوة لقانون التثاقف؛ إذ إنَّها تستورد المفاهيم والشعارات قبل تفهُّم بنية الفِكر الأول الذي صدَّرها، أو تفهُّم صيغة الكتب الأمهات التي صيغت فيها تلك المفاهيم، وهذا يشبه حسب وصف طرابيشي: "فكرة الالتزام قد ولدت من البداية إذِن بنوع من عملية قيصرية، فالجنين قد رأى النور بضرب من حَمل كاذب، وبدون نماء عضوي في رحم الثقافة العربية."

ويشرح ذلك عن طريق العودة إلى تجربته الأولى في أواخر الخمسينيات مع الترجمة (التي تنازل بها عن حقوق الترجمة) لنص كامل للفيلسوف (جون بول سارتر)؛ إذ أدرك حينها عن طريق النقد والأخطاء التي طالت تلك الترجمة معنى التسرُّع في استيراد المفاهيم وترجمتها دون دراسة الكتاب الأم، ويتابع نقده لبنية التثاقف العربية عن طريق تفاصيل مختلفة تطال مسيرته ومسيرة مترجمين آخرين.

ويحلِّل طرابيشي كتابي المفكِّر (صادق جلال العظم) "ذهنية التحريم" وكتاب "ما بعد ذهنية التحريم" واصفًا إياهما بكتاب نقد النقد، وكتاب نقد نقد النقد، وهذا تبعًا لطريقة ص.ج العظم في طرحه، فهو يحتاج محاورًا يناقشه ويتجادل معه ليُنجزَ أفكاره دائمًا، وحتى إذا كان المحاور هو ذاته، لينتقل طرابيشي فيما بعد إلى هرطقات عبد الرحمن بدوي؛ أحد أكبر صُنَّاع الفكر للجيل العربي المعاصر ترجمةً وتأليفًا وتحقيقًا وشرحًا لمئة وعشرين كتاب أصدرها، وتُدرج هرطقات ع. بدوي التي يتناولها طرابيشي في ثلاثة محاور قد تُنتج نقدًا كبيرًا لـ ع.بدوي بعد دراسة بعض الأجزاء من مسيرة حياته:

ويقدِّم طرابيشي المسألةَ الكردية نموذجًا عن مسألة الديمقراطية والقومية والأقليَّات، وهذا عن طريق الخوض في سجلِّها التاريخي منذ مواجهة القومية التركية للأقليَّات الكردية وما بعد، وينتقل كذلك إلى مقاله (الدين والسياسة في علاقة أوروبا بفلسطين) بأقسامه الخمسة:

ولم يخلُ كتاب (هرطقات) من المنحى العلمي؛ إذ يجابه طرابيشي التزمُّت الفكري العربي أمام تبعية العلم في مقاله (قصة الإنسان، أو الحيوان الذي خلق نفسه بنفسه) ليُنهي رحلة هرطقاته -كما يُسمِّيها- في مقاله الأخير (الإلحاد).

معلومات الكتاب:

عنوان الكتاب: هرطقات 2، عن العلمانية كإشكالية إسلامية-إسلامية.

اسم المؤلف: جورج طرابيشي

عدد الصفحات: 248 صفحة

نشر عبر: دار الساقي بالاشتراك مع رابطة العقلانيين العرب، بيروت، لبنان، 2008