التعليم واللغات > اللغويات

حاسة الشم.. صراعٌ في المفردات واختلافٌ بين المجتمعات

في هذه المقابلة تكشف عالمة اللغويات النفسية (آصفة ماجد) Asifa Majid والزميلة في اتحاد العلوم النفسية Association for Psychological Science والباحثة في جامعة (يورك) University of York في المملكة المتحدة عن الاختلافات الثقافية في الطريقة التي يتكلم بها الناس عن الروائح والعطور.

السؤال الأول: كيف أصبحتِ مهتمة بالطريقة التي نتعرف بها على الروائح ونتحدث بها عنها؟

أحاول أن أفهم في بحثي العلاقة بين اللغة والتفكير، وإحدى الطرائق لفعل ذلك هي فحص مدى سهولة الأشياء أو صعوبتها عندما يتعلق الأمر بالتعبير عنها في اللغة؛ هل كل ما تفكر فيه يمكن التعبير عنه بصورة متساوية في اللغة أو قابلٌ للإيضاح بصورة مطلقة؟ هل توجد تجارب يصعب التعبير عنها لفظيًّا؟ لطالما كانت الرائحة مهمة بالنسبة لي لأنه يوجد افتراضٌ قديم يقول إنه من المستحيل التكلم عن الروائح، وقد عُدَّ هذا الافتراض مؤكدًا كونه لم توجد مفردات من قبل تصف الروائح، وبالإضافة إلى ذلك فقد وجد علماء النفس -بناءً على الظروف التجريبية- أن الناس يواجهون صعوبة في تسمية الروائح المألوفة حتى، وقد بدت هذه الملاحظات متعارضة مع مؤلفات علم الإنسان؛ إذ لاحظ علماء الأجناس البشرية وجودَ ما يسمى "ثقافات الشم"، وهي مجتمعات يولي فيها الناس الروائحَ أهمية خاصة في حياتهم اليومية، وهذا التعارض (بين صعوبة القدرة على التكلم عن الروائح ووجود مجتمعات مهتمة بها) دعا للتساؤل الآتي: إذا كان يوجد مجتمعات مهتمة جدًّا بالروائح، فهل يمكن أن يكون هناك طريقة للتكلم عن هذه الروائح في اللغات المحلية؟ ولهذا السبب انطلقتُ لأدرس الرائحة عبر اللغات والثقافات المختلفة.

السؤال الثاني: درستِ مؤخرًا المجتمعات البدائية (التي تعتاش على صيد الحيوانات وجمع الطعام البرِّي) في شبه جزيرة الملايو Malay لاختبار قدرة الناس على التعرف على الروائح وتسميتها، لماذا اخترت هذه المجموعات المحددة؟

جاء هذا العمل في إطار دراسة أكبر للغة الإدراك عبر الثقافات، وفي بداية العمل في هذا المشروع أدركنا وجود شيء استثنائي في لغة (جاهاي) jahai -التي يتحدث بها السكان في شبه جزيرة الملايو؛ إذ بدا أن هذه اللغة تملك بالفعل مفرداتٍ متعلقة بالشم، وهي كلمات مخصصة من أجل التعبير عن أنواعٍ خاصة من الروائح؛ فعلى سبيل المثال تُستخدم كلمة ltpɨt لوصف رائحة الأزهار المختلفة والفواكه الناضجة والعطور والصابون وخشب الأكيلاريا وغيرها، في حين تصف كلمة  cŋɛs رائحة النفط والدخان وفضلات الخفافيش وكهوفها وبعض فصائل كثيرات الأرجل (أم أربعة وأربعين) وجذور الزنجبيل البرِّي وغيرها، ويوجد نحو 12 كلمة من كلمات الروائح المميزة في لغة (جاهاي) ولهذا السبب انطلقنا أنا وزميلي الخبير والرائد عالميًّا في تلك اللغة (نيكولاس بيرنهالت) Niclas Burenhult لنختبر بصورةٍ تجريبية قدرة الناطقين بهذه اللغة من صيادين وجامعي طعام على تسمية الروائح، وقارناهم مع متحدثين للغة الإنكليزية مطابقين لهم في العمر والجنس، ثم طلبنا من المتحدثين من كلتا المجموعتين أن يصفوا مجموعةً من محفزات الألوان والروائح القياسية. يُفترض أن الناس عمومًا أكثر قدرة على الحديث عن الظواهر البصرية من الحديث عن الظواهر الشمية، لكننا وجدنا هذا الافتراض غير دقيق؛ فقد أظهر متحدثو اللغة الإنكليزية التباين الاعتيادي بوجود توافق أعلى في كيفية حديثهم عن الألوان مقارنة بالحديث عن الروائح، أما متحدثو لغة (جاهاي) فقد كانوا فصيحين (في المفردات) على حدٍّ سواء في كلامهم عن الروائح والألوان، وكانوا أفضل بكثير من متحدثي الإنكليزية في تسمية الروائح.

السؤال الثالث: ما الذي قد يفسر هذه الاختلافات الثقافية في اللغة الشمية؟

من الصعب معرفة ما الذي قد يكون سبب هذه الاختلافات بالاعتماد على هذه الدراسة وحدها؛ إذ يختلف متحدثو (جاهاي) ومتحدثو الإنكليزية من الولايات المتحدة الذين اختبرناهم اختلافًا كبيرًا من جميع الجوانب، فلغاتهم غير مترابطة ويعيشون في بيئاتٍ مختلفة (يعيش شعب "جاهاي" في الغابات المطيرة المدارية ويعيش متحدثو الإنكليزية في المستوطنات الحضرية) وتتناقض أساليب معيشتهم (مجتمعات بدائية مقابل حضارة ما بعد الثورة الصناعية التي تعتمد على الصناعات الثقيلة)، وباعتمادنا على بيانات ومعلومات من هذين المجتمعين فقط لا نستطيع أن نعرف ما هو الأصح من هذه العوامل، ولمعالجة هذا الأمر درسنا أنا وزميلي (نيكولاس) مجتمعاتٍ مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بشعب (جاهاي) وهم شعب (سيماك بيري) Semaq Beri الذي يشبه شعب (جاهاي) في كونه مجتمعًا بدائيًّا يعتمد على الصيد وجمع الطعام البرِّي، وأيضًا مجتمع (سيميلاي) Semelai الذي يعمل أفراده بستانيين (يزرعون الأرض بعد مسح الغابات وقطعها بالحرق وتُسمى زراعة الوقيد)، وتنتمي كلتا المجموعتين إلى أسرة لغة (جاهاي) نفسها، وتعيش كلتاهما في الغابات المطيرة المدارية. وإذا نظرنا إلى عامل البيئة أو الأسرة اللغوية على أنه الأهم فإننا نتوقع أن كلتا المجموعتين ستسلك السلوك نفسه، أما إذا كان عامل المعيشة هو الحاسم فإننا نتوقع أن يتصرف مجتمعا (سيماك بيري) و(سيميلاي) بصورةٍ مختلفة.

قارنا مرّةً ثانية تسميةَ الألوان والروائح في كلا المجتمعين، ووجدنا أن جماعة (سيميلاي) -التي لا تعيش على الصيد وجمع الطعام- تصرفت مثل متحدثي الإنكليزية تمامًا، أما في جماعة (سيماك بيري) فقد أظهر الصيادون والجامعون تفوُّقًا في تسمية الروائح مثل جماعة (جاهاي)، وبهذا يبدو أنه يوجد شيء ما بخصوص نمط حياة الصيد والجمع يفضي بصورةٍ خاصة إلى التواصل الشمِّي.

السؤال الرابع: في مقالة كتبتها لصحيفة Time ذكرتِ أن الغربيِّين ينفصلون على نحوٍ متزايد عن البيئات الطبيعية، الأمر الذي يؤدي إلى نوعٍ من فقدان الشم الثقافي، ما هي الآثار النفسية والاجتماعية المترتبة على ذلك؟

لا تُعطى حاسةُ الشم حقَّها في الغرب، وفي إحصاء أُجري مؤخرًا جاء أن أكثر من 50% من الشباب البالغين يفضلون أن يفقدوا حاسة الشم لديهم على أن يفقدوا هواتفهم النقالة أو حواسيبهم المحمولة؛ فالناس لا يدركون أنه من دون حاسة الشم لن يكون مذاق الطعام شهيًّا، ولن يعودوا قادرين على أن يشمُّوا تسريبًا في الغاز أو حريقًا، وستترتب عواقب على نظافتهم الشخصية وعلاقاتهم الاجتماعية أيضًا؛ إذ في دراسة أُجريت على 500 شخص يعانون فقدان حاسة الشم، قال 92% منهم أنهم لم يعودوا يستمتعون كثيرًا بطعامهم وشرابهم، وهذا يعود إلى أن حاسة الشم تؤدي دورًا كبيرًا في تذوقنا للطعام، ووجدت دراسةٌ أخرى أن ما بين 25% و50% من الأشخاص المصابين بفقدان حاسة الشم قد تناولوا عن طريق الخطأ طعامًا فاسدًا، وبسبب القلق الاجتماعي من روائح الجسد يمكن أن ينتهي الأمر بفاقدي حاسة الشم إلى أن يستحمُّوا عدَّة مراتٍ في اليوم أو يفرطوا في استخدام العطور وكولونيا ما بعد الحلاقة، وفي الحقيقة يعاني فاقدو حاسة الشم وحدةً واكتئابًا أكبر تبعًا لدراساتٍ حديثة.

أخيرًا من المثير للاهتمام أنه على الرغم من الدور الأساسي الذي تؤديه حاسة الشم لدينا في حياتنا فإننا لا نقدِّرها كثيرًا وذلك إلى درجة أننا نفضل أن نحافظ على أجهزتنا التقنية أكثر من أنوفنا في ترتيب الأولويات.

وأنتم أعزاءنا، هل لديكم روائح مفضلة؟ رائحة الكاتبة المفضلة هي رائحة أمها، وقالت: "لا شيء يبعث على الراحة أكثر من رائحة أمي"، ولكن عطورها المفضلة الآن هي Hermes وUn Jardin Sur le Nil.

المصدر: 

هنا

هنا31616-0