كتاب > الكتب الأدبية والفكرية

مراجعة كتاب "هرطقات؛ عن الديموقراطية والعلمانية والحداثة والممانعة العربية": هرطقة أم ثورة فكرية؟

كتاب "هرطقات" بجزئيهِ الأول والثاني من أكثر الكتب القيِّمة للمُفكِّر الراحل (جورج طرابيشي)، فهو يحتوي أعمالًا متعدِّدة تتناول أكثر إشكاليات السياسة العربية والإسلامية جدلًا وأحوجها إلى التحليل والتنقيح، وتفتح الباب على مصراعيه نحو الحداثة والتنوير ورسمِ هيكلٍ مُتقن للمبادرة لتحقيق العلمانية والديموقراطية، وقد قدَّم عميد النقَّاد العرب -كما اعتدنا منه- تلك الإشكاليات بصيغة نقدية وثقافية مُتقنة.

فالمُفكِّر (جورج طرابيشي) "1939-2016" كاتب وناقد ومترجم سوري من مواليد مدينة حلب، ويحمل الإجازة في اللغة العربية والماجستير في التربية من جامعة دمشق، وقد عمل مديرًا لإذاعة دمشق، وكان رئيس تحرير مجلة "دراسات عربية" ومحرِّرًا رئيسًا في مجلة "الوحدة" أيضًا.

وتشكِّل المقالات المجموعة بين دفتي هذا الكتاب بعضًا من حصاد العمر لفِكر طرابيشي، أمَّا بشأن غرابة اسم الكتاب "هرطقات"، فهذا ينفذُ بنا إلى إيمان الكاتب أنَّ ما يُسمَّى "هرطقات" في عصرنا هذا ما هو إلا سبيلٌ إلى مقاومة الأصولية وارتداد العالم العربي نحو قرون وسطى جديدة، فالذين قُمِعوا في التاريخ والحاضر تحت بند الهرطقة أو البدعة، هم من يحملون راية الحداثة والعقلانية، والذين يحملون ثورةً تُنجي العالم العربي من ظلامية القرون الوسطى والتطرُّف الفكري، وسوف نضيء في هذا المقال بعض أفكار الكتاب التي تُلامس واقعنا وتاريخنا.

ويفتتح طرابيشي كتابه بمقال يتناول إشكاليات الديموقراطية في العالم العربي، فيعدِّد تلك الإشكاليات عن طريق ستة محاور تخوض فيما يقف بوجه تحقيق الديموقراطية، وتستند تلك الإشكاليات في جوهرها إلى فقدان الشروط الصحيحة لتنفيذ الديموقراطية بصورة تضمن نجاحها في العالم العربي، وترافق ذلك التنويه أمثلة من الواقع الشرق أوسطي؛ تجسِّد ماهية الصخرة التي تتحطَّم عليها أحلام الديموقراطيِّين، ويسوق طرابيشي كلًّا من تلك الإشكاليات إلى مجال الوعي والتحريض للإجابة عنها.

ويَشرَع طرابيشي في مقاله الثاني بذِكر أمثلة تُناقض عنوان المقال إلى حدٍّ ما " بذور العلمانية في الإسلام"، وذلك عن طريق الإضاءة على مجموعة مواقف إعلامية تاريخية وتصريحات تكفيرية طالت رقاب العلمانيِّين العرب، ولكنَّ المؤلِّف يعود بنا إلى تاريخ الإسلام والتغلغل في بذوره العلمانية عن طريق محورين؛ فالأول، عن طريق مقارنته مع التاريخ المسيحي ومفهوم العلمانية فيه، والثاني، عن طريق الاستشهاد بمسير الإسلام الذي دمج بين الدين والسياسية، ولكنَّه أعطى -على الرغم من ذلك- أولويةً للحياة الدنيوية على الآخروية، وهذا ما يعدُّه طرابيشي بذرةً من بذور العلمانية فيه، فيُكمل استشهاده عن طريق مشاهد تاريخية مُقتضبة من السيرة النبوية وإشكالية الخلافة الإسلامية؛ كوْن صراع الخلافة هو أول صراع سياسي في جوهر الإسلام، ويحذِّر طرابيشي -في نهاية هذا المقال- من التحيُّز نحو المغالطة التاريخية في فهم كلامه؛ أي نَسْب تاريخ الأمس إلى نتائج التاريخ المعاصر، فليست جذور العلمانية في المسيحية هي التي تطوَّرت فأدَّت إلى ظهور العلمانية في الغرب المعاصر، ولن تتطوَّر بذور العلمانية في الإسلام لتظهر العلمانية في الشرق المعاصر، بل القطعية المعرفية التي تنجزها الحداثة هي ما تدفع العلمانية إلى التجسُّد في المجتمع.

ويراجع طرابيشي في كتابهِ مقالًا محوريًّا يتناول فجرَ الترجمة في التاريخ الإسلامي، فيتساءل "من قتل الترجمة في الإسلام؟" ليشرح تلك الحرب الطاحنة التي خاضها العقل في سبيل استقلاله واعتزاله في الحضارة الإسلامية، ولكنَّه واجه -بكلِّ أسف- مثالب السياسة الدينية والمتعصِّبين من الفقهاء الذين نهوه عن الاعتزال، وعملوا على محاصرة كل انفتاح ونزوع عقلي تحت شعار الهرطقة "البدعة"، والذي ساد دون منازع على امتداد القرنين السابع والثامن الهجريين؛ إذ يقول طرابيشي:

"ونحن نزعم أنَّه لو لم توأد حركة الترجمة، ولو ظلت الحضارة العربية الإسلامية في طورها المتأخر منفتحةً على الآخر انفتاحها عليه في طورها المُتقدم، لما كانت كارثة الانحطاط  قد وقعت."

ويناقش طرابيشي في مقاله المميَّز "الفلسفة العربية المستحيلة" تساؤلًا يتردَّد في عصرنا، وخاصة من الطلاب والمهتمِّين بالفلسفة، وهو لماذا يكاد يستحيل أن توجد فلسفة عربية حديثة؟ ويُعزي ذلك إلى ثلاث سلاسل متراكبة من السببيات، ويتناول طرابيشي بعدها في مقالة "الأنتلجنسيا العربية والإضراب عن التفكير" مناظرةً تحت عنوان "العلمانية والإسلام" بين محمد عابر الجابري وحسن حنفي، مع أنَّهما –كما يذكر المؤلِّف- كانا مُتفقين فيما يتعلَّق بالموقف من العلمانية، وهو الرفض القاطع لها، ولكنَّ رفضهم يستند إلى طرق وتبريرات مُختلفة، فيواجه طرابيشي تلك المناظرة ناقدًا ومُحلِّلًا.

ويتطرَّق طرابيشي إلى إضاءءة نحو مفهوم اللاقراءة، أو القراءة الضدية، وهذا عن طريق دراسته لكتاب "أساطير سياسة عربية" للكاتب (عمانويل سيفان) مثالًا حيًّا عن تجربته مع مفهوم اللاقراءة الذي يعني القراءة الإلغائيية أو الإحلالية، ومنه يُقدِّم رؤيته عن ثلاث أساطير عن السياسة العربية ذُكرت في ذلك الكتاب أيضًا، ويقول في هذا المقال مُشيرًا إلى ضرورة الانفتاح في القراءة دون أخذ جنسية الكاتب أو دينه أو قوميته في عين النظر:

"بدلًا من قراءة ضدية انغلاقية، فقد أشرعت ذهني لقراءة معرفية انفتاحية، وهذا لا يعني أنِّي خدَّرت حسِّي النقدي."

وينتقل طرابيشي بعد شرحه لمعضلة المثقَّف، وسقوط الماركسية إلى الدين والأديولوجيا والميتافيزيقيا عن طريق قراءة دلالية لـ"رحلة ابن فطومة" لــ(نجيب محفوظ)، ويطرح بعدها مجموعة مقالات تتناول الرواية العربية ومجموعة مسائل سياسية ودينية أيضًا؛ مثل"العلمانية: مسألة سياسية لا دينية"، وربَّما كانت هذه الدراسات المجموعة في هذا الكتاب لا تقدِّم أجوبة بقدر ما تثير الأسئلة وتعيد صياغة الإشكاليات.

عناوين المقالات في الكتاب:

 

معلومات الكتاب:

عنوان الكتاب: هرطقات عن الديموقراطية والعلمانية والحداثة والممانعة العربية

اسم المؤلف: جورج طرابيشي

عدد الصفحات: 229 صفحة

نُشر عبر: دار الساقي بالاشتراك مع رابطة العقلانيين العرب، بيروت، لبنان، 2006.