الفلسفة وعلم الاجتماع > علم المنطق والأبستمولوجيا

المنطق الصوري؛ آلة الفكر

للمنطق مكانة مهمّة في الدراسات الفلسفية والعلمية؛ فقد اهتم الباحثون في الفلسفة والرياضيات بوضع أنظمة منطقية مختلفة القواعد والأسس والأفكار، والآن لم يعد هناك منطق وحيد هو منطق أرسطو فقط؛ بل ظهرت أنواع كثيرة في هذا العصر، وقد اتضح من دراسات الباحثين في شتى العلوم أن المنطق يكوّن القاعدة الأساسية لجميع العلوم، وطريقة التحليل المنطقي بشكلها الأول هي منهج رياضي وفلسفي قبل أي شيء آخر، إذ يعتمد المنطق على تحديد معاني الرموز أو اللغة التي يستخدمها العلم والمنطقيّون الذين يسعون إلى المعرفة واليقين، وتبعًا لذلك فإن التحليل المنطقي هو طريقة توضيح الأنظمة المؤلفة من كلمات ورموز بينها علاقات منطقية معينة. 

ويعود تأسيس المنطق -الذي تطوّر فيما بعد إلى أنظمة فكرية تطال الرياضيات والفيزياء والبيولوجيا وعلم اللغة- إلى المعلم الأول أرسطو (384-322 ق.م) وهو أول من أسس علم المنطق على دعائم قوية ومتينة ليُنتج لنا علمًا مستقلًا له قوانينه ومبادئه، وصاغ أرسطو رؤيته التحليلية من خلال مجموعة كتب تُسمى: الأورغانون (Organon)؛ وهي كلمة أغريفية تعني (الآلة)، ويحتوي على كتاب المقولات، والعبارات، والتحليلات الأولى، والتحليلات الثانية، والمواضيع، وأبحاث منطقية أخرى،[1] ويعدُّ الإرث الأرسطي مرجعية لعلم المنطق للحضارات التي تلته مثل الحضارة الإسلامية التي طُوِّر فيها المنطق على أيدي علمائها الذين ساهموا في إضافات جديدة في نظرية المعنى وابتدع بعضهم طرائق ارتباطية في المنطق. 

هنا

وينقسم علم المنطق إلى قسمين:

وهو البحث في طرائق وصول الفكر إلى الحقيقة واليقين والابتعاد عن وقوعه في الخطأ، لا يقتصر على دراسة الصور الفكرية في العقل التي تكوّن البراهين، بل يدرس المواد الخارجية (المادية) ويكوّن البراهين على أساسها، ومن خلال هذا يضع القواعد التي تجعل الفكر مطابقًا للأشياء الخارجية الي يتطابق تعريفها مع تعريف العقل بشكلٍ مُبرهن، وأوضح طرائق هذا المنطق المادي؛ الملاحظة، والفرضية، والتجربة والاستقراء وغيرها من طرائق البحث العلمي. 

وهو النظر في التصورات العقلية والقضايا والقياسات من حيث صورتها لا من حيث مادتها، أي إن المنطق الصوري يهتم فقط بانسجام الفكر مع نفسه لا بمدى انطباقه على الواقع، ومن أقسامه؛ المنطق الرمزي: وهو منطق حديث يعبر عن الفكر بلغة الرموز والعلامات وليس الألفاظ والعبارات، ويسمى المنطق الرمزيُّ منطقًا رياضيًا، أو جبر المنطق، أو المنطق الآلغوريتمي.

وأما المنطقية (Logicism): فهي نزعة تصدِّر المنطق أولويةً في البحث الفلسفي لرد جميع العلاقات إلى علاقات منطقية ومعالجة الأشياء بأسلوب منطقي، وتهمل من خلال ذلك السايكولوجيا والأخلاقيات، أي إن المنطقية تعد المنطق مستقلًّا عن علم النفس والميل لرد الظواهر النفسية العقلية إلى علم المنطق، وتقدِّم المنطق على غيره من العلوم بالشرف والرتبة.

والمنطقية المُطلقة (Panlogisme): هي القول بإمكانية إنشاء الوجود الواقعي بأكمله من خلال العقل وقوانينه، وقد أطلق إردمان (Erdmann) هذا اللفظ على مذهب الفيلسوف الألماني هيغل (Georg Wilhelm Friedrich Hegel) القائل: إنّ الوجود الحقيقي هو الوجود المنطقي أو العقلي.[3][4]

وفي المنطق الصوري حصر أرسطو قوانين الفكر بأربعة قوانين أساسية يستند عليها منطقه، ويُطلَق عليها المبادئ المنطقية:

1. قانون الذاتية (الهوية) The Law of Identity:

وهو يدلّ على ذاتية الأشياء واحتفاظها بجوهرها مهما طرأ عليها من ظروف التغيير والتبديل وبذلك يدلّ على ثبات جوهر الأشياء، مثلا إن قُلنا: بحر؛ فإننا ندلُّ على تجمّع كبير للمياه المالحة وهذا ذاتيّته الثابتة. وهكذا نصَّ أرسطو في قانونه هذا أن لكل شيء هويّة ثابتة تدلُّ عليه.

ويعبَّر عنه بالصيغة الآتية؛ (أ) هو (أ).

2. قوانين عدم التناقض  The Law of Non Contradiction:

ومعناه أن الشيء لا يمكن أن يكون ذاته والنقيض له في آنٍ واحد، أو أن يجمع السلب والإيجاب معًا، وهو صورة أُخرى من قانون الذاتية البديهي لأنه يعبر عن ثبات الحقيقة ووحدتها، مثلاً: الشيء لا يمكن أن يكون في الوجود والعدم في آن واحد. 

فنحن حينما نقرر في قانون الذاتية (أ) هو (أ) إننا ننفي في الوقت نفسه أن يكون (أ) ليس (أ)، أو (أ) نقيض لـ (أ).

3. قانون الوسط الممتنع (الثالث المرفوع) The Law of the Excluded Middle:

وهو شكل آخر لقانون (عدم التناقض) على هيئة شرط، ويعني أن الشيء لا بد من أن يتصف بصفة ما أو بنقيضها ولا وسط بينهما، فالشيء إمّا أن يكون سالبًا أو موجبًا ولا يمكن أن يكون (سالب وموجب). وهو القول أيضًا بأن القضيتين المتناقضتين لا تصدقان معًا ولا تكذبان معًا، مثل: الفصل الأول من الكتاب، إما أن يكون مفيدًا أو غير مفيد.

ويعبّر عن القانون بالصيغة الآتية: (أ) إما أن تكون (أ) أو نقيضها، ولا وسط بين ذلك.

4. مبدأ القياس: ويرمز له: إذا كانت (أ) تتضمن (ب)، وكانت (ب) تتضمن (ج)؛ فإن (أ) تتضمن (ج).[2][4]

يهدف المنطق من خلال قوانينه إلى دراسة طرائق التفكير ويجردها من الخطأ والمغالطة، فينظِّم الاستدلال ويسنّ قوانين الفكر ليقود إلى اليقين. وتكوّن مكونات لغة التفكير "الحدود والقضايا والدلالات" في المنطق الصوري وسيلةً ومنهجًا بحثيًّا لدراسة المعلومات، التي تُسمى في لغة المنطقيّين "القضايا المنطقية". ويهيئ لنا علم المنطق قواعد البحث العلمي (استنادا إلى المنطق المادي) فيعرِّف الأشياء تعريفا يبيّن حقيقتها ويوضِّح معناها مع الاستدلال على صحّة الفكرة أو خطأها، والمنطق رافض للتزمُّت المعرفي، بل يستند إلى الانفتاح العقلي والخارج عن المنظومات المنغلقة بكافة أنواعها.

ويعتمد المنطق في استدلاله على القواعد العقلية والرياضية المبرهنة، مثل: الخطين المتوازيين لا يلتقيان، السالب ينقص من قيمة الموجب. ويجب أن يدلّ التعريف على المعرُّف: فلا نستطيع القول إن تعريف الشمس هو كوكب يدور حول الأرض لأن هذا غير مبرهن وخاطئ، وبذلك يكون غير منطقي. 

يقول ابن خلدون في علم المنطق: "علم المنطق علم يعصم الذهن عن الخطأ [...] وفائدته تمييز الخطأ عن الصواب فيما يلتمسهُ الناظر [في الموجودات وعوارضها] ليقف على تحقيق الحق في الكائنات نفيًا وثبوتًا بمنتهى فكره"[3]

 

المصادر: 

1- خليل، ياسين، نظرية أرسطو المنطقية، جامعة بغداد، مطبعة أسعد، العراق، 1946. صـ 12+ 

2- هنا

3- سعيد، جلال الدين. معجم المصطلحات والشواهد الفلسفية ج2، دار الجنوب للنشر، فلسطين، تونس، 2004. صـ 447 + صـ 446

4- صليبا، جورج. المعجم الفسلفي، دار الكتاب اللبناني، بيروت-لبنان، 1982. صـ 317 + صـ 429 + صـ 431