الفيزياء والفلك > علم الفلك

تأثير ضوء القمر في حركة الحيوانات ونموها وحتى طريقة غنائها

يتجمهر الناس مرتين في الشهر على شواطئ جنوب كاليفورنيا لمشاهدة الأمسية الجميلة تحديدًا؛ من مارس (آذار) وحتى أغسطس (آب)؛ إذ يصبح الرمل مغطّى بمئات -إن لم يكن آلاف- أسماك الجرنيون (Grunion). تتقلّب وتتلوّى بألوانها الفضّيّة على الشاطئ على امتداد البصر، تدفن إناث الأسماك ذيولهن في الرمل وتخرج البيض، في حين تلتف الذكور حول الإناث وتفرز الحيوانات المنويّة لتلقِّح تلك البيوض، ثم يفقس البيض بعد عشرة أيام، مخرجًا أسماك الجرنيون الصغيرة التي تعود مجددًا إلى البحر.

عادةُ التزاوج هذه متزامنة مع عمليتَي المد والجزر؛ إذ يفقس البيض بالتزامن مع المد كل أسبوعين، ولكن القوة العظمى التي تنظّم هذه العملية هي القمر.

يعرف عديد من الناس أنّ قوة جاذبية القمر على الأرض هي ما تسبب المدّ والجزر، وعن طريقهما، دورة الحياة للكائنات التي تعيش على الشاطئ، لكنَّ  القمر يؤثر في الحياة أيضًا عن طريق ضوئه.

بالنسبة إلى الناس الذين يعيشون في مدن تعج بالأضواء الصناعية، سيكون من الصعب تخيّل كيف لضوء القمر أن يؤثر في الحياة الليلية. أما في العراء بعيدًا عن أي ضوءٍ صناعيّ، فالفرق بين ضوء البدر الكامل والقمر الجديد (المحاق) يمكن أن يصنع فرقًا كبيرًا عند السير خارجًا دون كشّاف صناعيّ.

وتتأثّر الحيوانات كذلك ، بوجود ضوء القمر أو غيابه وفقًا للتغيرات  في سطوع القمر في الدورة القمرية؛ ويمكن أن يكون الضوء مع توافر الموارد الغذائية أهم عامل بيئي لتغيّر سلوك الحيوانات.

صنَّف الباحثون -خلال عقود- تأثير ضوء القمر في الحيوانات، وما زالوا يحصلون على روابط جديدة. اكتشف العديد حديثًا أمثلة عن كيفية تأثير ضوء القمر في ضحية الأسد، وطريقة حركة الخنفساء، ونمو الأسماك، وعمليات هجرة الحيوانات، وحتى أصوات الطيور.

انتبه من القمر الجديد:

تُعَدُّ الأسود في "تنزانيا" كائنات ليلية مفترسة، فيكونون قادرين على اصطياد الحيوانات بكفاءة في الفترات المظلمة من الدورة القمرية. ولكن كيف يمكن للفرائس أن تتفاعل مع تغيّر تهديد المفترس في حين كانت غير قادرة على فهم الدورة القمرية؟

تتبع Meredith Palmer -وهو عالم بيئة في جامعة برينستون الأمريكية- هو وزملاؤه أربع أنواع تُعَدُّ فرائس للأسود لعدّة سنوات باستخدام 225 كاميرا موزعين على منطقة بحجم لوس أنجيلوس.

الفرائس كانت: الظبي الأفريقي، والحمار الوحشي، والغزلان، والجاموس؛ التي تعد كلّها حيوانات آكلة نباتات ويجب أن تستمر بالتنقل لتلبية احتياجاتهم الغذائية، حتى في الليالي الخطيرة، وضحت الصور أن هذه الكائنات تستجيب لتغير الخطر بالنسبة إلى تغير الدورة القمرية استجابة مختلفة.

الحيوانات البرية (Connochaetes taurinus) التي تشكّل تقريبا ثُلث نظام الأسد الغذائي، كانت أكثر الحيوانات استجابة لتغير الدورة القمرية. فبدا أن الحيوانات تنظّم جدولها الليلي وفقًا لطور القمر الحالي.

وفي أحلك الليالي في الشهر، يضعون نفسهم في منطقة آمنة. ولكن في أكثر الليالي إضاءة، تكون الحيوانات البرّية أكثر استعدادًا للذهاب إلى المناطق الأشدّ خطورة حيث  تكون الأسود موجودة.

الجاموس الأفريقي (Syncerus caffer) الذي يزن قرابة 900 كيلوجرامًا هو أكثر الحيوانات إخافة للأسود، كان أقل الحيوانات استجابةً لتغيّر الدورة القمرية. وضح الباحث "بالمر" أنّهم -تقريبًا- يذهبون حيثما يوجد الطعام، ولكن في الليالي الحالكة، كانت الجواميس ميّالة أكثر لتشكيل جماعات والبقاء فيها لتوفير الحماية.

تغيَّر روتين حيوانات أخرى مثل الحمار الوحشي (Equus quagga) والغزلان (Eudorcas thomsonii) أيضًا مع تغيّر الدورة القمرية. ولكن على عكس الفرائس الأخرى، هذه الحيوانات تفاعلت على نحو أكبر مباشرة مع تغيّر مستوى الضوء في المساء. فتكون الغزلان أكثر نشاطًا بعد أن يظهر القمر، في حين تكون الحمير الوحشية أحيانًا نشيطة حتى قبل بزوغ القمر.

إنَّ هذه السيناريوهات في "تنزانيا" توضّح الآثار الكبيرة لضوء القمر، إنها لقصَّة جميلة حقًّا، فهي مثال واضح، كيف يمكن لوجود القمر أن يمتلك تأثيرًا نوعيا في أسلوب الحياة البريّة.

المتجول الليلي:

 يًعَدُّ ضوء القمر بمثابة البوصلة لدى الخنافس الليلية، فقدرة الحشرة على التنقل ليلًا تعتمد على طور القمر الحالي. 

ففي غابات جنوب أفريقيا، يعد غائط الحيوانات بمثابة واحة للحشرات؛ إذ إنَّه يحوي موادًا غذائية نادرة وماء، التي تجذب حشدًا من الخنافس. 

هناك نوع من الخنافس يدعى Escarabaeus satyrus يخرج في الليل ليحصل على الطعام، يحمله و يشكّله على شكل كرة التي عادة ما تكون أكبر من حجم الخنفساء نفسها ثم يدحرجها بعيدًا عن باقي الحشرات، ثم تدفن نفسها والطعامَ في الأرض.

إن أفضل طريقة تتبعها الخنافس لإيجاد أفضل مكان للدفن هو السير في خط مستقيم، الذي يكون عادة بعيدًا بضعة أمتار عن مكان إيجاد الطعام، ولتجنب التحرك في دوائر أو طرقَ متعرّجة، فإن الخنافس تستخدم تقنية ضوء القمر القطبي؛ يعني ضوء القمر القطبي باختصار أن الغازات الموجودة في الغلاف الجوي تشتت الضوء المعكوس عن القمر، فتصبح متأينة، وهذا يعني أن موجات الضوء التي تصل إلى الأرض تهتز بالمستوى نفسه، هذا التشتت ينتج عنه نمط من الضوء لا يمكن لعين الإنسان أن تراها. ولكن الخنافس يمكنها أن تستخدمه لتوجيه نفسها، وهذا يعني أن تعرف مكان القمر بالتحديد دون الحاجة إلى رؤيته رؤية مباشرة.

قيَّم بعض العلماء والباحثين -في بعض الاختبارات الحديثة- قوة قطبية الإشارة على منطقة وجود الخنافس؛ فنسبة الضوء المتقطّب خلال طور القمر المكتمل تقريبًا مشابهة لنسبة الضوء المتقطّب من ضوء الشمس خلال النهار، وهذا يعني أن الحشرات الليلية مثل النحل تستخدمه للحركة كذلك. 

وفي طور الهلال، تواجه الخنافس بعض المشكلات في التنقل، فربما يكون الضوء المتقطّب خلال طور الهلال مرئيًا لدى مفترسي الخنافس.

وعند هذه النقطة، يصبح التلوث الضوئي مشكلةً حقيقية؛ إذ إنَّ الضوء الصناعي سيتداخل مع الضوء المتقطّب. على الرغم من أن المناطق الحدودية في أفريقيا ربما لا تزال بعيدة عن تلوث الأضواء الصناعية، فربما الخنافس لا تكون الكائنات الليلية الوحيدة التي تستخدم ضوء القمر للتنقل، حتى لو لم يكن التلوث الضوء مشكلة لهذا النوع، ربما يكون مشكلة للعديد من الأنواع الأخرى.

شبيه لضوء الشمس:

في المحيطات المفتوحة، يساعد ضوء القمر الأسماك على النمو.

يعتقد بعض الباحثين إن العديد من أسماك الشعب المرجانية تقضي أوقات نموها في البحر، ربما لأن الماء العميق يشكل بيئة أكثر أمانًا للنمو هربًا من الكائنات المفترسة. ولكن هذا تخمين، لأن هذه اليرقات صغيرة جدًّا على أن نتبعها، فالعلماء لا يعرفون الكثير عن هذه الكائنات، لكن عالمًا من جامعة فيكتوريا في نيوزيلندا، حاول ابتكار طريقة لمعرفة تأثير ضوء القمر في هذه الكائنات.

يرقات أسماك (triplefin (Forsterygion lapillum؛ وهي عبارة عن أسماك صغيرة تعيش في الشعاب المرجانية في المياه الضحلة على سواحل نيوزيلندا، تقضي قرابة 52 يومًا في البحر حتى تصبح كبيرة كفاية لتعود إلى الشعاب المرجانية، ولحسن الحظ؛ فإن الأفراد البالغين من هذه الأسماك يحملون أرشيفًا في الأذن الداخلية على شكل إسطوانات من كربونات الكالسيوم التي تُسمى حصوات الأذن، تسجِّل هذه الحصى مدى نمو الكائن يوميًّا، وعلى نحو شبيه بحلقات الشجر، فتخزِّن حصى الأذن مدى النمو الذي حدث خلال اليوم.

عن طريق دراسة أنماط حصى الأذن لأكثر من 300 كائن، استنبط علماء من جامعة "مالبورن" في أستراليا أن اليرقات تنمو على نحو أكبر في الليالي المضيئة، أكثر من الليالي المظلمة. لو كان القمر ساطعًا ولكن مغطًى بالغيوم، فإن اليرقات لا تنمو بالسرعة نفسها.

تأثير القمر ليس بسيطًا. إنه قريب من تأثير درجة حرارة المياه، محرك معروف في تأثيره في نمو اليرقات: القيمة المضافة التي يحققها قمر كامل عن قمر محاق هو تأثير زيادة درجة حرارة المياه بدرجة سلسيوس كاملة حسب تقدير العلماء. ويعتقد العلماء أيضًا أن ضوء القمر الساطع يساعد اليرقات على رؤية العوالق في البحر واصطيادها على نحو أفضل.

بزوغ قمر سيئ:

يمكن لضوء القمر أن يعكس تجاه الهجرة اليومية التي تؤديها بعض أصغر كائنات المحيط.

في المواسم التي تشرق فيها الشمس وتغرب في المحيط القطبي، تغوص العوالق البحرية الدقيقة إلى الأعماق لتجنب الكائنات المفترسة التي تصطاد عن طريق الرؤية النهارية. ولكن افترض بعض العلماء أنه في الشتاء عندما تغيب الشمس لفترات طويلة فإن هذه العوالق تتوقف عن رحلتها اليومية إلى الأعماق.

اعتقد الناس حقًا أنه لا يحدث شيء في ذلك الوقت من السنة، ولكنه ظهر أن ضوء القمر هو من يتحكم وينظم عملية الهجرة تلك.

تتكرر الهجرة عادة خلال 24 ساعة مع هذا النوع من العوالق؛ إذ تهبط مسافة تتراوح من عدة سنتيمترات إلى عشرات الأمتار لأعلى ولأسفل. ولكن الرحلات الشتوية تأخذ وقتًا أطول بقليل؛ إذ تحدث كل 24.8 ساعة، وهذه المدة تتطابق تمامًا مع المدة التي تأخذها دورة القمر له للصعود ثم الهبوط. ولمدة 6 أيام حين يكون ضوء القمر في أشد أوقاته سطوعًا، تختبئ هذه العوالق في أعماق قد تصل إلى 50 مترًا تحت سطح المحيط.

يبدو أن هذه العوالق البحرية تتميز بامتلاكها ساعة بيولوجية داخلية، مرتبطة بدورة ضوء الشمس التي تستغرق 24 ساعة بالضبط، فإن هذه الكائنات ربما تمتلك القدرة أيضًا على التأثر بدورة القمر، ولكن هذا لا يزال غير مؤكد.

سوناتا ضوء القمر:

ضوء القمر يؤثر أيضًا في الحيوانات التي تكون نشطة في النهار، وقد استنبط العلماء هذا عند دراسة نوع من العصافير الموجود في جنوب أفريقيا white-browed sparrow weavers.

هذه الطيور تعيش في جماعات أشبه بالعائلة. وعلى مدار السنة، يغني أفراد هذه العائلة غناء جماعيًّا بصفته نوعًا من الدفاع عن أرضهم. ولكن في موسم التكاثر، تغني الذكور أيضًا غناء فرديًّا. وهذا النوع من الغناء هو ما جذب الباحثة يورك في جامعة كامبريدج إلى كالهاري.

كانت تستيقظ في الساعة الثالثة أو الرابعة صباحا لتجهيز معداتها قبل أن يبدأ الغناء. وفي مدة سبعة أشهر، اكتشفت الباحثة أنه عندما يكون القمر مكتملًا، يسبق الذكور الإناث بعشر دقائق في الاستيقاظ، وهذا الضوء الإضافي، يحفِّز عملية الغناء، لأنه في الليالي عندما يكون القمر محاقًا، تبدأ العصافير بالغناء في أوقاتها الطبيعية.

عندما تبدأ العصافير بالغناء على نحو مبكر، إن هذا يزيد مدة فترة الغناء بـ 67%، الأمر الذي يُعتقد بأنه يساعد إناث العصافير على اختيار الشريك المناسب.

تأثير القمر في حياتنا:

نحن نعرف أن القمر لا يحول الناس إلى كائنات مستذئبة مخيفة، ولكن، إن كانت عديد من الكائنات تتأثر بضوء القمر، فلماذا لا يكون الإنسان كذلك؟!

بحث العلماء في العلاقات الممكنة بين ضوء القمر، والعديد من التجارب البشرية المختلفة، مثل الإدراك، والولادة، ومواعيد زيارة غرفة الطوارئ، والمشكلات الصحية التي تصيب القلب، والنوبات النفسية، والإصابات في الرياضة، وأحداث العنف والشغب، وحتى التقلبات التي تصيب سوق الأسهم والبورصة. جزء كبير من الدلائل غير دقيقة ومتناقضة. على سبيل المثال، هناك دراسة تقول إن الناس يصابون بالأرق في الليالي التي يكون القمر فيها مكتملًا، في حين هناك دراسات أخرى تشير إلى عدم وجود ترابط بين الأرق والقمر. شيء واحد يبدو واضحًا ومنطقيًّا، هو أن مدة الدورة الطمثية عند النساء هي نحو 28 يومًا، أي إنها تقريبًا بطول الدورة القمرية 29.5 يوما.

في الواقع، اعتمدت عديد من الأبحاث على معلومات استُنِبطَت من دراسات لم تكن تنظر إلى تأثير ضوء القمر في المقام الأول. ما يلزم حقًّا، هو تجارب بفرضيات واضحة حول كيفية تأثير القمر في سلوكنا ووظائف أجهزتنا. وحتى ذلك الوقت، يبقى من الصعب تحديد ماذا لو كان تأثير القمر فينا حقيقة أم محض خيال مجرّد.

المصدر:

هنا