الفنون البصرية > أيقونات فنية خالدة

أرسطو يتأمّل تمثالًا نصفيًّا لهوميروس الكفيف في إطار

*رامبرانت، فنان عصر الباروك الهولندي:

رامبرانت فان رين (Rembrandt Van Rijn)؛ رسَّامٌ وحفَّارٌ Printmaker هولندي من عصر الباروك، وُلد في مدينة لايدن (Leiden) الهولنديّة  في الخامس عشر من شهر تموز عام 1606م، وتوفَّي في اليوم الرابع من تشرين الأول عام 1669م في العاصمة الهولنديّة أمستردام.

وهو واحد من أعظم مصوّري القِصص التاريخيّة والميثولوجية في تاريخ الفن؛ إذ امتلك مقدرةً استثنائية تمثّلت بالتمكّن من تصوير الناس بمختلف أطباعهم وهيئاتهم الدراماتيكية، واشتهرَ بكونه مصوّر الضوء والظل ورسّامهما الذي فضّل رسم الواقعيّة كما هي دون محاولة لتزييفها أو تجميلها الذي دفعَ بعض النقاد لأنْ يحكموا عليه بأنَّه فضّل القبحَ على الجَمَالِ.

إِنَّ جوهر أعمال رامبرانت يتمحور حول لوحات دينيّة، وبغزارة أقل لوحات تاريخيّة وأسطورية وتاريخية مجازية. صوَّر هذه المواضيع في لوحاته الزيتيّة أو بالحفر أو الطباعة، إضافة إلى أنه أدى العمل على دراساتٍ سريعة للوحاته بالحبر أو بالطبشور.

*لوحة الفيلسوف اليوناني أرسطو (Aristotle) مع تمثال نصفي للشاعر اليوناني هوميروس (Homer):

تتكلّم لوحتنا هنا عن إحدى هذه اللوحات التي امتازَ بها رامبرانت ذات الطابع التاريخيَ المجازي.

إنَّها ضمن أكثر لوحات متحف الميتروبوليتان (The Metropolitan Museum of Art) الأمريكي شهرةً؛ إذ دفع المتحف في عام 1961 مبلغ 2.3 مليون دولار لاقتناء هذه اللوحة التي كانت من أعمال رامبرانت الأخيرة، وكان هذا مبلغًا مُدهشًا لم يسبق أنْ دُفِع مِثله لأيّ عملٍ فنيٍّ قبل هذا العام المذكور، ومن الجدير بالذّكرِ أنَّ اللوحة رُسمت في عام 1653م.

*تحديد هوية الشخوص في اللوحة:

لقد عاشَ الشَّاعرُ الإغريقيّ هوميروس قبل قرابة الـ 400 عام من ولادة أرسطو، هذا الشَّاعر العظيم الذي خلَّده الأدب لروعة ملحمتيه الشعريّتين الأوديسة (Odyssey)، والإلياذة (Iliad).

يمكننا تحديد هويّة أرسطو في اللوحة عن طريق ملامح وجهِه، وطول شعر رأسه ولحيته، ويمكننا مُلاحظة المجوهرات على ردائه الذي رسمه (رامبرانت) رسمًا مفصّلًا ودقيقًا. كلُّ هذه العناصر في مظهره -مماثلةً لعناصر لوحات أُخرى تصوِّر الفيلسوف أرسطو- أُنتجَت في القرنين السادس عشر  والسابع عشر في كل من أوروبا الشماليّة والجنوبيّة.

أمّا بالنسبة إلى هوميروس، فتأكيدُ هويّته في التمثال الموجود في اللوحة يأتي من تشابه ملامح التمثال مع لوحةٍ أُخرى لرامبرانت موجودةٌ في متحف بيت موريس، أو ما يُعرف بمتحف موريتشيوس (Mauritshuis) في مدينة لاهاي الهولندية، وهذه اللوحة عنونها رامبرانت نفسه بـِ (تمثيل هوميروس Representation of Homer)، ويمثّل رامبرانت في اللوحة الشّاعر هوميروس الأعمى معزولًا بهيئته وملامحِه وهو حيٌّ في هذه اللوحة مطابقة تمامًا لهيئته في التمثال النصفي في اللوحة التي نتحدّث عنها؛ فشكل الوجه، وموضع العينين غيرالمبصرتين وهيكلهما، وشريط الرأس النحيف الموجود على جبهته يدعم بشدّة الشبه بين اللوحتين، ويؤكد هويّة هوميروس في التمثال النصفي.

أمَّا عن أرسطو فقد كانت يده اليُمنى تمتدّ  لتستريح على التمثال المنحوت والموضوع على طاولةٍ أمام تلّ من الكتب المخفية على نحو جزئيٍّ وراء السِّتارة، وهو لا ينظر مباشرةً إلى التمثال النصفي، وإنِّما تحدق عيناه في مكانٍ ما غير مرئيٍّ خارج إطار اللوحة، وتُساهم نظرته الضائعة في خلقِ شعورٍ كئيب وتفكيرٍ شارد.

أمَّا ملابس أرسطو فلا تبدو وكأنها تنتمي إلى فترة تاريخيّة معيّنة، وإنِّما اختار (رامبرانت) أن يصوِّر أرسطو بمجموعةٍ غريبةٍ من الملابس تتمثّل بقبَّعةٍ ذاتِ حافةٍ بيضاء، وسترةٍ قصيرة باللون الأبيض أيضًا، وكِساءٍ شبيه بالمئزر بلونٍ قاتمٍ ومزيّن بالذَّهب، إضافةً إلى قرطين وخاتم في خنصره اليساري. لقد صوَّر (رامبرانت) التمثالَ النصفيّ بدرجةٍ دافئةٍ من اللون لدرجةٍ تبدو وكأنّ التمثال من لحمٍ وليس من حجر.

*ضربات الفرشاة في اللوحة:

كما هو الحال في الكثير من لوحاتِهِ في الثُّلثِ الأخيرِ من حياته، اعتمد (رامبرانت) على الغناء اللوني الداكن في خلفيّة اللوحة؛ لإظهار الشخصيّة المركزيّة التي تخرج من الظُّلمة بهدوءٍ كما لو أنّها تحتَ منبعٍ ضوئيٍّ مباشرٍ كضوءِ المسرح.

على الرغمِ من أنِّ لُبّ موضوع اللوحة يتمحور حول علاقة أرسطو بتمثال هوميروس، إلّا أنَّ الغزارة اللونية في طيّات كمّ أرسطو يجذبان انتباهنا نحوه، ووصولًا إلى يده اليسرى التي تتزيّن بالخاتم الذهبي وتستريح على السلسلة التي تزيّن خصره، أمّا خلفيّة اللوحة التي تتماهى في غموضٍ مبهمٍ من القتامة التي يرجّح أن تكون قد زادت نسبتها مع مرور الزمن.

*تفسير اللوحة:

يتحدّث مؤرخ الفنِّ وخبير اللوحات الهولندية يوليوس هيلد (Julius Held) عن اللوحة بأن رامبرانت يمثّل أرسطو وهو يتأمّل مليًا في النجاح الدنيوي الزائل الذي تمثّله السلسلة الذهبية بالمقارنة مع التمثال النصفي لهوميروس الذي يمثّل الفائدة والحكمة الأكثر عمقًا التي يمكن للإنسان أن يكتسبها من الأدب والفن. وبهذا يَعُدُّ هيلد أنّ الأقواس المتعاكسة التي رسمها رامبرانت في ثياب أرسطو وملابسه المنحوتة تشكّل نقاط تضاد في اللوحة.

في كتابه الشعرية أو فن الشعر (Poetic) يتناول أرسطو الشعر من بين موضوعات أخرى، كالمسرح والفنون، ويقول إنّ هذه النشاطات هي عمليّة إعادة خلق الواقع ومحاكاته في تكوين جديد؛ إذ يقدم المصوِّر أو الشَّاعر تصوّرًا جديدًا للمتلقي ومن ثم طريقة جديدة لاستيعاب الواقع والعالم وفهمهما، وباختيار أرسطو موضوعًا للوحته، يؤكد رامبرانت دور الرؤيا والتصوّر -في نشاط الرسم ذاته- بصفتهما فنًّا نبيلًا.

ولربما تكون جاذبية اللوحة مستمدّة من كونها تدعو المشاهد للتفكير والتأمّل الملي،  يقول المؤرخ الأمريكي والتر ليدتك (Walter Liedtke): "لا تنبثق منه الحكمة بصفته حكيمًا أو فيلسوفًا، وإنّما بصفته إنسانًا يتأمّل المشكلات الأخلاقية ويحاول فهمهم في خاطرة نفسه."

وعن طريق إعطاء الإمكانية للمشاهد بأخذ دور أرسطو في اللوحة للتعلّم عن طريق التفكير العميق، يسمح رامبرانت للمتلقي الخوض -كما أرسطو- في تأمّل فكريّ عميق، ولذلك كانت وما زالت هذه اللوحة عملًا فنيًّا رائعًا ودعوة فكريّة دائمة للأجيال القادمة ولزوّار متحف الميتروبوليتان في الولايات المتحدة (نيويورك).

المصادر:

1- هنا

2- هنا

3- هنا