الطب > زراعة الأعضاء

رحلة عضو من المتبرع إلى المتلقي (الجزء الثاني)

بعد أن تحدثنا -في مقال سابق- عن قطبَي التبرع بالأعضاء: المتبرعون بأنواعهم والمتلقون؛ سنتحدث في هذا المقال عن عملية نقل العضو والحفاظ عليه دون أن يلحق به ضرر إلى أن يصل إلى جسد المتلقي.

 بروتوكولات الحفاظ على الأعضاء وتطوراتها بين الماضي والحاضر: 

كان زرع الأعضاء أحد أهم التطورات الجوهرية في مجال الطب في النصف الأخير من القرن العشرين، وما تزال الدراسات والتطورات مستمرة لتغيّر قواعد الممارسة الحالية في المحافظة على العضو، وإروائِه، والتقليل من نقص الأكسجة قدر الإمكان، وإبقائه بدرجة الحرارة الفيزيولوجية، ومن المهم فهم هذا التاريخ لرسم الاتجاه المستقبلي لهذا المجال من البحوث الطبية.

وإن عدنا بالتاريخ إلى عام 1812م؛ ظهر المفهوم الأول لتروية عضو خارج الجسم الذي طرحه العالم سيزار جوليان جين لوغالو Cesar Julein Jean Le Gallois؛ إذ تكهن بأنّه لو كان بالإمكان تعويض مكان القلب بحقْن مستمر وبانتظام، سواء بطريقة طبيعيَّة أم اصطناعيَّة، فإنّه يمكن توفير التروية الكافية لأي جزء من الجسم ولأمد بعيد. 

وعام 1849م وصف العالم الألماني كارل إدوارد لوبيل Carl Eduard Loebell أوَّل تجربة تروية على كلىً معزولة من خنازير؛ إذ لاحظ أنّ الدم الشرياني الأحمر القانئ يتحول بعد مروره في الكلية ليصبح لزجًا وقاتمًا في الأوردة الكلوية.

وعام 1885م بنى ماكس فون فراي Max von Frey وماكس غروبر Max Gruber أوَّل نظام دوران مغلق يتشابه بأوجه عديدة مع أنظمة التروية المستخدمة في يومنا هذا. 

صورةٌ لأوَّل نظام دوران مغلق من صنع فون فراي Max von Frey، وماكس غروبر Max Gruber.

صورة لـ Max Gruber

وعام 1895م أنشأ جاكوب Jacobj جهاز دوران مضاعف، وقد استخدم فيه رئتين معزولتين مؤكسِجًا، فأتاحَ الفرصة لتروية العضو ساعات أطول. 

وقد ساهمت التجارب جميعها في تطوير ما يُدعى بـ "الأكسجة الغشائية خارج الجسد extracorporeal membrane oxygenation ECMO"، وما تلاه من أنظمة إرواء للحفاظ على الأعضاء.

من الدم إلى حلول كيميائية للتروية:

تاريخيًّا؛ كان الدم يُستخدَم لتروية الأجهزة، وكان ذلك يتطلب كميات كبيرة منه قد لا تكون متوفرة، لذلك لُجِئ إلى دماء حيوانات بأنواع مختلفة، ولكن هذه الطريقة كانت سامة للطعوم؛ ما أدى إلى إلغائها. 

وفيما بعد لجأ العلماء إلى إضافة محاليل ملحية أو محاليل رينجر إلى دم الحيوان نفسه لتمديدها، ولكن أدى هذا إلى حدوث وذمات شديدة في الأعضاء وخاصة في الرئتين. 

واستطاع ألكسيس كاريل عام 1937م الحفاظ على عيوشية غدد درقية معزولة من قطط باستخدام محلول تيرود Tyrode الذي يتألف من سكر، وشوارد، و40-50% مصلًا مماثلًا، وتراوحت مدة الحفاظ على الأعضاء 3-21 يومًا، وفي عام 1968م زرع مع علماء آخرين مشيمة بشرية في وسط زرع كيميائي، واحتُفِظَ  بالمشيمة 14 يومًا تقريبًا، ولكن بدأت التغيرات في النسيج الضام (السدى stroma) بالظهور بعد مرور 3 أيام تقريبًا. 

ومع مرور الوقت تنبّه الباحثون إلى أهميَّة تخفيض الحرارة في التخفيف من تلف الأعضاء نتيجة خفض الاستقلاب الخلوي، وقد أدى ذلك إلى تجارب عديدة تكللت عام 1969م بنجاح كولينز، وذلك بتطوير محلول بارد سُميَ باسمه؛ إذ أمكن بواسطته الحفاظ على الكلية مدة 30 ساعة. وليولدَ بذلك التخزين البارد الثابت Static cold storage بديلًا من وسائل التروية الحركية.

التخزين البارد الثابت Static cold storage:

يعتمدُ التخزين البارد الثابت على دفع محلول حفظ بدرجة (0-4 درجة سيليزيوس) ضمن العضو، ثمّ غمر العضو بالسائل بدرجة الحرارة  نفسها إلى حين الزرع، وهي الطريقة القياسية منذ اختراع محلول كولينز.

وقد طرأ على محاليل الزرع تطورات وتعديلات عديدة منذ الستينيات، واندرجت هذه المحاليل تحت تصنيفين أساسيين هما: السوائل الداخل الخلوية، والسوائل الخارج الخلوية.

وأتاحت المواد الحافظة النقلَ الآمن للأعضاء في جميع أنحاء البلاد، ويطلق على الفترة الفاصلة بين دفق سائل الحفظ ضمن العضو حتى إعادة ترويته بالدم الدافئ اسم "زمن الإقفار البارد Cold Ischemic time". وعلى الرغم من أنّ معايير هذا الزمن تتفاوت، ولكنه أنموذجيًّا للحفاظ على الكلى بأمان مدة 24-36 ساعة، وللحفاظ على الكبد والبنكرياس والأمعاء 12-18 ساعة، وأما القلب والرئة فيمكن الحفاظ عليها فترة 4-6 ساعات. [4] 

إنّ محدودية زمن الإقفار البارد للأعضاء يُشكِّل عقبة أمام توفير أعداد أكبر من الأعضاء للزرع، أو نقلها مسافات أبعد، وللتغلب على هذه العقبات ظهر مفهوم الأعضاء المروّاة بالآلة:

آلة التروية خارج الجسم الحي EX vivo machine perfusion:

تؤدي الأذية المرتبطة بحدثية إقفار/عود إرواء -التي تحدث عند إعادة التروية إلى نسيج أو عضو بعد مرور فترة من انقطاع التروية عنه- لزيادة خطر سوء الوظيفة الباكر للطُّعم وإنقاص البقيا الطويلة الأمد بعد الزرع، وقد أدى ذلك إلى الحاجة إلى إعادة الإصلاح خارج الجسم للأعضاء الممنوحة قبل عملية الزرع؛ وذلك عن طريق آلة تروية تضخ سائلَ الإرواء ضمن العضو، وتحافظ على مقدار مناسب مضبوط من تدفقه، وبذلك المحافظة على الجملة الوعائية المجهرية ضمنه، وتعمل على إمداده بتركيز الأوكسجين الملائم، والمواد الغذائية اللازمة والتخلص من نتائج الاستقلاب السامة ريثما تتم عملية الزرع.

ولما كان معدل التنفس الحيوي يتناسب مع درجة الحرارة المحيطة؛ فقد اختُبِرَت درجات حرارة مختلفة ظهرت بواسطتها أنماطًا عدة لأجهزةِ التروية خارج الجسم الحي، وهي تتضمن ما يأتي:

- جهاز التروية سوي الحرارة (NMP) عند 35-38 درجة مئوية.

- جهاز التروية دون الحرارة الطبيعية (SNMP) عند 20-34 درجة مئوية.

- جهاز إعادة التدفئة المؤكسَجة المضبوط (COR) في درجة حرارة 8-20. 

- جهاز التروية منخفض الحرارة HMP عند 0-8 درجة مئوية. [1]

وعلى الرغم من أن بروتوكولات التروية منخفضة الحرارة مصممة لتهيئة بيئة فيزيولوجية للعضو، لكن هذا الأنموذج بعيد تمامًا عن علم وظائف الأعضاء الطبيعي، فعلى سبيل المثال تختلف التروية المنخفضة الحرارة عن التروية الفيزيولوجية في النقاط الآتية:

- ضغط التروية هو 25% فقط من الضغط العادي (40 مقابل 180 ملم/ز). 

- يُحافَظ على عملية التروية في درجة حرارة منخفضة تبلغ 5 درجات مئوية. 

- عند درجة حرارة منخفضة كهذه يقل استهلاك النسيج والخلايا للأوكسجين ويبلغ استهلاكها 5  % من الاستهلاك الطبيعي في الدرجة 37 درجة مئوية. [3]

طُوِّرَت مؤخرًا أجهزة تروية تعتمد على مضخات نبضية، وأظهرت التجارب أنّها تحسن من وظيفة العضو، وتتيح زمن إقفار بارد أطول، فعلى سبيل المثال يمكن باستخدام مضخة تروية الكلى المحمولة Portable kidney pump الحفاظ على الكلى مدة تصل حتى ٤٨ ساعة، وتخدم الخصائصَ المميزةَ لهذه المضخة بوصفها وسيلةً تشخيصيةً تُساعد مراكز زراعة الأعضاء على اتخاذ قرار فيما إذا كان الطُعم مناسبًا للزرع، ولكن مع ذلك أدت خصائص أخرى ضعيفة في المضخة إلى إحداث سوء وظيفة في الطعوم، وبذلك ارتفاع معدلات التخلص منها. 

صورة لمضخة الكلى المحمولة

آفاق مستقبلية:

أدى التقدم المذهل على وسائل حفظ الأعضاء والدراسات المستمرة في هذا المجال إلى زيادة كبيرة في نجاح عمليات زراعة الأعضاء علاجًا لمرضى عدة  في المراحل النهائية من مرضهم، ولأنّ عجلة العلم لا تتوقف، والعلماء لا يعرفون اليأس، فلا يزال هذا المجال يتطور يومًا بعد يوم، وسنُلقي نظرة إلى بعض من مجالات هذا التطوير:

١- إصلاح العضو Organ repair:

جرت دراسات عديدة هدفت إلى تحقيق أفضل تروية للعضو، والحد من الأضرار الناجمة عن عود التروية، وكان جهاز تروية الرئة خارج الجسم EVLP من أكثر مجالات الدراسات فعاليةً؛ إذ اختُبرَت مقاربات علاجية عدَّة تهدف إلى إصلاح الرئة باستخدام هذا الجهاز، فعلى سبيل المثال؛ كانت تجربة استنشاق غازات علاجية (NO, CO, H2) بواسطة EVLP لتقليل حدوث وذمة رئة وتخفيض الاستجابة الالتهابية، وطُوِّرَ علاج جيني بالـ IL-10 للوقاية من أذية إقفار/عودة التروية، واستُخدِمت خلايا جذعية ميزانشيمية لعلاج إصابة الرئة الناجمة عن الإنتان، أو السموم الداخلية.

٢- تجديد الأعضاء Organ regeneration:

وعام 2008م؛ نجحت أول هندسة لعضو كامل لقلب فئران؛ إذ استُخدم جهاز التروية خارج الجسم بصفته منصة لهذه الهندسة، وقد أدت هذه التجربة إلى إيقاد شعلة أمل لدى العلماء، فتوالت الدراسات والتجارب واحدة تلو الأخرى، وعلى الرغم أنّ التحديات لا تزال كبيرة؛ ولكن الآمال معقودة على هندسة الأعضاء حلًّا لتلبية الطلب الكبير على الأعضاء في المستقبل. 

ختامًا؛ يمكن القول بأنّ مقالنا هذا هو غيض من فيض وفير فيما يخصُّ تاريخ المحافظة على الأعضاء المخصصة للزرع وتفاصيلها لإيصاله بسلامة إلى جسد المريض وليحمل بعدها مسؤولية الحفاظ على هذا العضو الثمين. 

المصادر:

1- هنا

2- هنا

3- هنا

4- هنا

5- هنا

6- هنا