الاقتصاد والعلوم الإدارية > اقتصاد

تقود الثورةُ الصناعية الرابعة العولمةَ الرابعة

تتشابك العولمة والتكنولوجيا على نحوٍ وثيق، وتتوسع حركة الناس والبضائع والأفكار بسرعةٍ متزايدة بفعل طرائق النقل والاتصالات الجديدة، وبالمقابل فإنَّ التطور التكنولوجي يتقدم عن طريق تنوع الأفكار واتساع نطاق التواصل على المستوى العالمي.

أدَّت التكنولوجيا في جميع مراحل العولمة دورًا أساسيًّا في خلق الفرص والمخاطر المرافقة لها، في حين تقود الثورةُ الصناعية الرابعة المرحلةَ الجديدة من العولمة (التي يطلق عليها العولمة الرابعة أيضًا).

نقدم لكم في هذا المقال خمس نِقاط يمكننا تعلمها عن طريق النظر إلى تأثير التكنولوجيا في المستقبل وفي الماضي.

1 – العولمة ليست نتيجةً حتمية حتى مع تحسن التكنولوجيا:

على الرغم من أنَّ أغلبنا يميل إلى التفكير بأنَّ العولمة هي سمة أساسية من سمات الحداثة التي استمرت بالتطور منذ الثورة الصناعية الأولى، لكنَّ ذلك ليس صحيحًا تمامًا؛ إذ كان التغير الرئيسي نحو تزايد العولمة نتيجةً للحرب العالمية الأولى والاضطراب الاقتصادي الذي لحقها، ووصلت مستويات التكامل والاندماج الاقتصادي ذروتها عام 1914 (نتيجةً للعولمة)، واستمرت بالارتفاع وصولًا إلى النصف الثاني من القرن العشرين، وبدأ الاقتصاد يتعافى من هذا الارتفاع بعد ذلك.

العولمة على مدى خمسة قرون:

مؤشر الانفتاح الاقتصادي، ويعرف هذا المؤشر أنه مجموع الصادرات والواردات العالمية مقسومًا على الناتج المحلي الإجمالي العالمي، ويشير كل منحنى إلى مصدر مختلف.

2 – الأنظمة والمعايير العالمية أكثر أهمية من التقنيات الفردية:

جعل انخفاض تكاليف النقل والاتصالات تبادل مزيد من البضائع أمرًا ممكنًا، تمامًا كتأثير السفن البخارية التي أدى ظهورها إلى انخفاض وقت وتكلفة عبور المحيط الأطلسي، والالتزام وفق جداولَ زمنية ومواعيدَ دقيقة لإنطلاقها ووصولها على مدى القرن التاسع عشر، لكن من الضروري ملاحظة أنَّ العالم يتغير بفعل التكنولوجيا عندما تصبح هذه التكنولوجيا نظامًا معتمدًا عالميًّا فقط.

ومثال ذلك؛ حاوية الشحن المتعددة الوسائط التي أحدثت ثورة في تجارة البضائع العالمية منذ خمسينيات القرن الماضي هي أكثر من مجرد صندوقٍ حديدي بكثير، فهي مجموعة المعايير المتفق عليها عالميًّا، التي حدَّدت أبعاد الحاويات وقوتها ونقاط رفعها، ويلحق بها تصاميم الرافعات والبواخر والشاحنات والقطارات في أنحاء العالم.

وتمكنت أول رافعة بُنيت لهذا الغرض من نقل (تحميل وتفريغ) بضائع بإنتاجيةٍ أكثر بأربعين مرة من استخدام طريقة نقل البضائع بصورة منفردة.

وبفضل انتشار هذه المعايير العالمية في منتصف الستينيات؛ كان لهذه الإنتاجية أن تنتشر في أنحاء العالم، وهذا بدوره أثَّرَ مباشرةً في التوظيف في قطاع الشحن؛ إذ استُبدلَ النظام اليدوي بنظام آلي في التعامل مع الحاويات والروافع.

ولم ترتفع التجارة والثروة العالمية فحسب؛ بل انتقلت إلى معدل نمو جديد استمر بالارتفاع طوال عقود، ومكن ذلك من وجود رواد الأعمال واقتصادات جديدة كليًّا تميزت بقابيليتها للوصول إلى أسواق العالم جميعها.

وتجدر الإشارة إلى أن كل هذا لم يكن بلا ثمن؛ فقد انخفض عدد العمال المسجلين للعمل في الساحل الشرقي الأمريكي إلى أكثر من الثلثين بين عامي 1952 و 1972، وانخفض عدد عمال الموانئ في المملكة المتحدة من ما يزيد عن 70 ألف عامل في بداية عام 1960 إلى ما يقلُّ عن 10 آلاف عامل في أواخر الثمانينيات.

لقد كانت المكاسب الإجمالية من تبني المعايير الجيدة أكبر من كلفة تعويض الخسائر الناتجة عن تعويضات فرص العمل الملغاة؛ مما دفع عمال الشواطئ والموانئ وعائلاتهم للبحث عن  مصادر دخل أخرى.

3 – القرية العالمية مبنية على أسس رقمية:

ساعد انتشار الإنترنت وانخفاض تكلفة التكنولوجيا الرقمية المرافقة له على الدخول إلى الشبكات الرقمية على الصعيدين العالمي والمحلي في الوقت نفسه؛ ففي حين يصدر تجار الأكواخ الصغيرة في "نيروبي" بضائعهم إلى دول شرق أفريقيا؛ تسمح الصين لسكان قرية "تاوباو" ببيع بضائعهم عن طريق موقع علي بابا.

وقد أدى انطلاق التكنولوجيا الصنعية الجديدة بما فيها الطباعة الثلاثية الأبعاد والطرائق الجديدة لأتمتة المعامل وتعلم الآلة المعتمد على الذكاء الصنعي إلى تخصص كلي في المنتجات، وتحسن عرض المنتجات المحلية والطلب عليها، ما أدى نتيجة ذلك إلى تحسن حركة الصناعة ونمو الاقتصادات التشاركية سريعًا، وهذا بدوره يؤدي إلى ازدياد عدد الأشخاص القادرين على استخدام التكنولوجيا لخلق قيمة (منتجات ذات قيمة). 

وأسست شركة (مجموعة المحمول الخاصة) 314 مركزًا تكنولوجيًّا في أفريقيا عام 2016 وبعد أقل من سنتين نما هذا العدد بقرابة 50% ليصبحوا 442 مركزًا.

وفي عام 1967 صاغ "مارشال ماكلوهان" في كتابه "مجرة جوتنبرج" مفهوم القرية العالمية ووضع رؤى واضحة عن كل من فوائد توسع المساحة المشتركة العالمية لوسائل الإعلام ومخاطرها.

أما ثقافيًّا؛ فيعد الأشخاص المتصلون بالإنترنت جزءًا من المحادثات التي تحدث عن طريق عالم الواقع الافتراضي، وعلى الرغم من أن ذلك يؤدي إلى خلق فرص لتعزيز فهم الثقافات المختلفة وتشجيع التعاطف فيما بينها، فهو بالمقابل قد يؤدي إلى خطر تعزيز ديناميكية القطب الواحد.

العولمة -بالطبع- ليست مقتصرة على تجارة البضائع فحسب؛ بل تتعدى ذلك لتشمل السياسة المحلية والعالمية، والجنس والعرق والقضايا الاجتماعية الأخرى جميعها، فالقضايا التي تسيطر على مجتمعاتنا لم تعد تُرسم عن طريق مجموعة صغيرة من المصادر التي تعد رسمية وموثوقة، فاليوم كل شخص لديه صوت، واليوم تتنافس وكالات الأنباء بأرائها المتنافرة.

أدت العولمة أيضًا إلى نشوء مفهوم تدبير الفضائح، وحفَّزت سيلًا من التفاعلات القاسية على موقع تويتر، إضافة إلى أنها ساهمت في اتساع مساحة التعبير عن الرأي  مما أدى إلى انخفاض المساحة المتاحة للحقيقة، والأسوأ من ذلك أنه يمكن استخدام نتائج التكنولوجيا هذه في خلق الخلافات أو في تشويه سمعة أشخاص أو أفكار أو مؤسسات.

4 – اللعبة الكبرى:

يضع السباق على التطور التكنولوجي الأسس للتداخلات الجيوسياسية، يتضمن ذلك القدرة على التأثير في شكل العولمة، إذ قدمت التكنولوجيا للمؤسسات والبلدان القادرة على إتقانها قوة على الصعيد الاقتصادي والعسكري والسياسي بدرجات متفاوتة.

وتوظف مختلف البلدان اليوم استثمارات كبيرة في التكنولوجيا؛ مثل الذكاء الصنعي والإحصاءات الكمية، وفي الحقيقة، فإن تسخير التكنولوجيا الجديدة تسخيرًا ناجحًا أهم بكثير من الاستثمار بها فقط.

ويطرح "كاي فولي" في كتابه الأخير "القوى العظمى للذكاء الاصطناعي" جدالًا مقنعًا يقول فيه إن الصين هي الأفضل للفوز في المرحلة القادمة في سباق الذكاء الاصطناعي، وذلك استنادًا إلى قدرتها على تنفيذ أحدث تقنيات التعلم الآلي ورفع القدرة على الوصول إلى كميات هائلة من البيانات عن طريق بيئة تنظيمية سهلة. 

وفازت شركة "يتو" الصينية في اختبار البائعين لنظام التعرف إلى الوجوه؛ إذ وضع المعهد الوطني للمعايير والتكنولوجيا معايير هذا الاختبار، وهو الذي يضع القواعد الإرشادية لجميع مشتريات الحكومة الأمريكية. وقد تلقت شركات الذكاء الصنعي الصينية الناشئة 48% من التمويل العالمي للذكاء الصنعي في حين كانت حصة الشركات الأميركية 38%.

الثورة الصناعية الرابعة جاهزة لتعيد تشكيل القوى الاقتصادية والريادة العلمية وبنية سلاسل القيمة فضلًا عن الأشكال المستقبلية للتنظيم السياسي (توزيع القوى السياسية).

وهذا له تأثيرات كبيرة في كيفية ارتباط الدول ببعضها في المرحلة القادمة من العولمة.

5 –يجب على القيم الإيجابية المشتركة أن تقود العولمة الرابعة:

إن القواعد والقوانين العالمية بعيدة كل البعد عن الحيادية فيما يتعلق بالعولمة -كالتكنولوجيا-، فقد رسخت القواعد والقوانين والتكنولوجيا القيم لدينا وأرست فرضياتنا عن العالم ورغباتنا في ماهية المستقبل. وقد تعرضت الفترات السابقة من العولمة للانتقاد، بالنظر إلى أنها تركت الناس خلفها، في حين يُحتفى بها لكونها تولد الثروة وتنشر التكنولوجيا وترفع المستوى المعيشي في أنحاء العالم.

غالبًا ما يُشار إلى الصحافة المطبوعة على أنها سابقة تاريخية في مجال ثورة التكنولوجيا في مجتماعاتنا وأنها حجر الأساس لديمقراطية العلم والمعرفة، فقد زادت إمكانيات الأفراد وغيرت الهيكلية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. 

فأصبح محو الأمية والتعليم والتطور العلمي والمشاركة السياسية محور اهتمام الجميع بعد أن كانت مقتصرة على بعض الأفراد، مما أدى إلى تغيير القيم والمعايير وتوقعات الحياة المستقبلية.

يجب علينا أن نضمن أن التكنولوجيا التي تقود المرحلة القادمة من العولمة تتمحور حول الإنسان وأن تكون مدفوعة بالقيم الإيجابية، ويشير التقرير المقدم من المنتدى الاقتصادي العالمي في الملاحظات عن المستقبل الرقمي أننا يجب أن نسعى إلى الأنظمة والتكنولوجيا الشاملة والجديرة بالثقة والمستدامة.  

ماذا يعني هذا؟ 

يعني أنه في الوقت الذي نستفيد فيه من الفرص المتاحة بفضل الذكاء الصنعي في جعل مؤسساتنا أكثر إنتاجية؛ يجب العمل على إغلاق الفجوة الرقمية أيضًا (الثغرة بين الناس الذي يمتلكون اتصالًا بالإنترنت وبين الذين لا يمتلكونه)، وحل تحديات الخوارزميات (حل مشكلات البرمجة والذكاء الصنعي)، وتجنب التحيز والتفرقة عن طريق توفير التكنولوجيا. 

وعندما نبدأ باستخدام دفاتر حسابات عالمية موزعة لإحداث ثورة في التمويل العالمي يجب علينا توظيف "بلوكتشين" على نحو يساعد اللاجئين على إثبات هوياتهم ويساعد منظمات المجتمع المدني على تتبع التزاماتها تتبعًا دائمًا.

والأهم من ذلك كله أن على المحظوظين منا -القادرين على تطوير التكنولوجيا الجديدة أو استثمارها أو حتى القادرين على استخدامها فقط- أن يساعدوا من ليس لديهم فرصة لاستخدام التكنولوجيا. 

وعلى هذا نجد أن كلًّا من الثورة الصناعية الرابعة والعولمة الرابعة تشكل فرصة لإصلاح الأخطاء المرتكبة في الحقب السابقة، وهذا يتطلب بداية بناء التزام عالمي مشترك لمستقبل مشترك، ويحدث ذلك عن طريق بناء القيم المشتركة بين الثقافات؛ كالسعي إلى المصلحة العامة والحفاظ على كرامة وإرث الإنسان والسعي لمستقبل أفضل للأجيال القادمة.

المصدر:

هنا