العمارة والتشييد > التصميم العمراني وتخطيط المدن

المدن العائمة.. استغلال الثُّلثين الآخرين

كثيرةٌ هي الأفكار التي بدت عندما طرحها العلماء أوَّل مرَّةٍ ضربًا من ضروب الخيال، فالفكرة التي وُصِفت فيما مضى بأنَّها خيالُ معماريٍّ وأحلامُ رجلٍ ثريّ، قد تصبح قريبًا حقيقة، وقد تتجاوز ذلك بأن تكون حلًّا لمشكلات عديدةٍ تواجه عالمنا حاليًّا.

ففي اجتماعٍ لمجموعةٍ من البنَّائين والمهندسين والمعماريِّين ضمن إطار الأمم المتَّحدة، نُوقِش مفهوم بناء مدينةٍ عائمةٍ بأسعارٍ معقولة، وبعكس مشاريع مشابهة سابقة قُوبِلت في الماضي بالتَّشكيك بعمليَّتها، صرَّحت المديرة التَّنفيذيَّة لبرنامج التَّوطين في الأمم المتَّحدة "ميمونة موحد شريف" أنَّ الأمم المتَّحدة قد ترعى وتدعم هذا المشروع حتى ينجح على أرض الواقع.

إنَّ فكرة بناء مدنٍ عائمة ليست حديثة بل تعود إلى القرن الثاني عشر؛ إذ صُمِمَّت مدينةٌ عائمةٌ على ساحل إحدى المدن اليابانية (Kobe City) للمرة الأولى، وفي الوقت الحاضر فإنَّ دولًا عديدةً مثل هولندا وسنغافورة واليابان تعمل على تنفيذ مثل هذه المدن؛ بهدف زيادة مساحة أراضيها.

ووفق دراساتٍ عديدة، تنقسم المنشآت الطافية إلى قسمين:

منشآت شبه طافية: تَظهر المنشأة فوق سطح الماء، وتكون مستندةً إلى القاع باستعمال أعمدةٍ أنبوبيَّةٍ أو عناصر موازنةٍ هيكليَّة، وتُستعمل لشروط البحر طويل الموج.

منشآت طافية كليًّا: وتشبه عمليًّا صحنًا طافيًا على سطح الماء، وتناسب المياه الهادئة والخلجان والبحيرات.

ترى شركة "Oceanix" -إحدى الشركات المُتخصصة ببناء المنشآت العائمة- أنَّ بناءَ مثل هذه المدينة العائمة حلٌّ لمشكلتين رئيستين؛ أولهما النَّقص الحاد في السكن النَّاتج عن التَّزايد المطَّرد للتَّعداد السكاني، أمَّا الثَّانية فهي ارتفاع منسوب مياه البحر بسبب التَّغيرات المناخية التي طرأت على كوكبنا.

وسيراعي التَّصميم مقاومة الكوارث الطّبيعيَّة من فيضاناتٍ وتسونامي وأعاصير الدَّرجة الخامسة، إضافةً إلى إمكانية استعمال مثل هذه المنشآت الطافية قواعد لحفظ الوقود، وهي موجودة فعلًا في منطقة "Shira Shima" في اليابان، حيث توجد خزانات عائمة بسعة 5.6 مليون كيلولتر.

وُضِع تصوُّر المدينة العائمة -التي باتت تُعرف Oceanix- من قِبل المعماري الشَّهير "Bjarke Ingles" بالتَّعاون مع شركة "Oceanix".

وستتكوَّن المدينة من مجموعةٍ من الوحدات ذات الشَّكل سداسي الأضلاع، وستحمل كل وحدة منها 300 نسمة، ويُعدُّ الشَّكل السُّداسي من أكثر الأشكال العمليَّة في عالم العمارة (ومن أشهر الأمثلة عنه خليَّة النَّحل)، ويأمل البناؤون تخفيض كميَّة مواد البناء اللَّازمة باستعمالهم لهذا الشَّكل.

ووفق مصممي المشروع، سيكون هناك ست وحدات تؤلِّف قرية، وستتضمَّن المدينة ست قرى تحمل ما يقارب العشرة آلاف نسمة؛ إذ يحقق هذا العدد من السكان الاستقلالية والاكتفاء الذاتي للمدينة في قطاعات توليد الطاقة والتدفئة وتأمين المياه النظيفة.

ومن الجدير بالذِّكر أنَّ المدينة  لن تحتوي أيّة سيَّاراتٍ أو شاحناتٍ تطلق انبعاثاتٍ غازيَّة، ولن تحتوي أيَّ نوعٍ من سيَّارات نقل القمامة، وستُنقل القمامة بواسطة أنابيب خاصَّة لمحطَّة فرزٍ تضمن إعادة تدوير ما يمكن من القمامة.

يطرح تصَّور المدينة العائمة بما يتعلَّق بالزراعة والغذاء مفهوم الزِّراعةِ المحيطيَّةِ تحت الماء   "ocean farming"، والتي تعتمد تنمية مصادر الغذاء بزراعتها تحت الماء، وذلك عن طريق وضعِ أقفاص خاصَّة تحت الوحدات، وتستعمل للحصول على المحار وأعشاب البحر وغيرها من الأنواع التي ستدعم الموارد الغذائيَّة لقاطني المدينة، وسيستعملُ نظام تسميدٍ خاص يعتمد مخلَّفات الأسماك لتسميد النَّباتات ليكون إنتاج هذه المزارع العمودية على مدار العام، ممَّا سيزيد من جاهزيَّة المدينة ككل في مواجهة الأعاصير والكوارث الطبيعية، لتُقَلَّلُ النفايات الناجمة عن الاستهلاك وتأمين الغذاء اللازم لكل حيٍّ على سطح المدينة.

وعلى الرغم من تسمية "المدينة العائمة"؛ لكنَّها ستكون في الواقع مرتبطةً بسواحل المدن الكبرى،  بما لا يزيد مسافة بعدها عن الساحل عن ميلٍ واحدٍ (على مبدأ المرساة المستعملة لإرساء السفينة في الميناء)، أي يمكن جر (أو سحب) المدينة في حالات الخطر نحو مواقع أكثر أمانًا.

ستُدعَّم الوحدات بمادَّة Biorock وهي مادَّةٌ تنتج عن تعريض الفلزَّات تحت المائيَّة لتيَّارٍ كهربائيّ؛ ممَّا يخلق طبقة تغطيةٍ كلسيّةٍ أقوى من الخرسانة بثلاثة أضعاف مع الحفاظ على قابليَّة الطفو، وتتميَّز هذه المادَّة بتحسُّن مواصفتها مع مرور الزَّمن وقابليَّتها للإصلاح الذّاتيَّ ما دامت خاضعةً للتيار الكهربائي؛ ممَّا يجعلها قادرةً على مواجهة أقصى الظروف الجوية.

ويمكن للمدينة أن تحمل معداتٍ لتكثيف المياه العذبة من الهواء، وسيكون هذا النِّظام ممتازًا لمواجهة الكوارث الطبيعية؛ ممَّا يضمن استمرار المياه دون انقطاع.

لن تحتوي المدينة أيَّة مبانٍ عالية، وسيكون ارتفاع المباني فيها بين 4-7 طوابق فقط، وذلك لمراعاة اللامركزية، وتوازن الكتل بالنسبة لمركز الثقل.

وستحتوي المدينة مركزًا روحيًّا ومركزًا ثقافيًّا، إضافةً إلى مكتبةٍ عامَّةٍ يُمكن للسُّكَّان استئجار الحواسيب والكتب فيها.

وستُبنى البنية كافةً باستعمال مواد مستدامةٍ كالخشب وقصب البامبو، وستُصممُّ هذه المباني بصورةٍ تُسّهِلُ تفكيكها مستقبلًا، لكي تستطيع الأجيال اللاحقة تحسين التَّصميم وتطويره بما يلائمها.

تطوّرت عمارة البحار، وهناك أمثلةٌ عديدةٌ عن الجزر الصِّناعيَّة، نذكر منها جزيرة  "Holmen" المقرَّر إقامتها على الشاطئ الجنوبي لمدينة كوبنهاغن، وتهدف إلى تحقيق الأهداف ذاتها التي تهدف إليها غيرها من الجزر الصِّناعيَّة مثل: الوقوف بوجه ارتفاع منسوب مياه البحر، وتوليد الطَّاقة النَّظيفة دون وقودٍ أحفوري، وتهدف بالدَّرجة الأولى إلى أن تكون جزيرة سكنيَّة شأنها شأن جزيرة "Flevopolder" الهولنديَّة إحدى أكبر الجزر الصِّناعيَّة في العالم، والتي يسكنها أكثر من 300 ألف نسمة.

إنَّ هذه المدينة العائمة ومثيلاتها في العالم سواء التي رأت نور الواقع أو ما زالت تصاميمًا تنتظر دورها لترى النور تمثِّل حلًّا لمشكلة التزايد السكاني المطَّرد، وتسمح باستغلال المساحات المائية الكبيرة قرب مراكز المدن الساحلية الكبرى لتخفِّف من اكتظاظها، شرط أن تراعي معايير التنمية المستدامة لتخفيف حدَّة التغير المناخي الذي تفاقم على نحوٍ كبير استلزم تضافر كافَّة الجهود ولا سيما المعمارية لإيجاد الحلول المستدامة.

المصادر: 

هنا

هنا

هنا

هنا

هنا