الطب > زراعة الأعضاء

زرع الأعضاء: عندما تُهدى الحياة!

حذَّر الجرَّاح أوتو لانز Otto Lanz زملاءه عام 1894م من السخرية من علاجٍ يهدف إلى استبدال العضو الذي فقدَ وظيفته بعضو آخر، واليوم لا أحد يشكُّ في جدية وأهمية هذا الإجراء في عالمنا الطبي. 

وفي الحقيقة قد كانت فكرة استبدال الأجزاء المريضة أو التالفة من الجسم موجودة منذ آلاف السنين، فعلى سبيل المثال؛ إن عدنا بالزمن إلى عام 600 قبل الميلاد تقريبًا، نجد أنه فُكِّرَ باستبدال السدائل الجلدية الذاتية* (autogenous skin flaps) للمريض بالأجزاء المفقودة من الأنف، وهكذا استمرت المحاولات حتى نجح في هذا الإجراء الجراح كاسبار تاكليغاوسي Gaspare Tagliacozzi، وغيره من الجراحين الرائدين في مجال التجميل بحلول القرن السادس عشر؛ إذ اعتمدوا على استخدام رقعة جلدية مأخوذة من نسيج من المريض ذاته أو من متبرع.

ومع نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين كان تضخم الغدة الدرقية مشكلة شائعة، ولكن لم تكن وظيفة الغدة الدرقية ولا الآلية المرضية لتضخمها معروفة في وقتها. 

وعلى الرغم من ذلك؛ كان الجراح السويسري ثيودر كوشرTheodor Kocher يعمد إلى إزالة العضو كاملًا؛ لمنع الانتكاس لاحقًا، وظهرت فيما بعد مضاعفات هذا الإجراء (كقصور الغدة الدرقية)، لذا حاول كوشر عام 1883م زرع أنسجة الغدة الدرقية للمرضى الذين خضعوا لاستئصال الغدة كمحاولة لمعاكسة هذه المضاعفات، وتُعدُّ هذه العملية أول عملية استبدال عضو بالمعنى الحديث، وسريعًا تحولت أنظار الجراحين إلى مختلف الأعضاء، وليس فقط الغدد الصماء.

وإن كنا سنتحدث عن أهم المحطات التاريخية للزرع، فلا بد لنا من ذكر الجراح الفرنسي ألكسيس كاريل Alexis Carrel، الذي يُعدُّ الأب الروحي لعملية زرع الأعضاء الصلبة، فقد كان له مساهمات عديدة في هذا المجال، وعادة ما يُنسَب إليه ظهور خياطة الأوعية الدموية واستخدامها في زرع الأعضاء، الأمر الذي قاده للحصول على جائزة نوبل عام 1912م لتطويره هذه التقنيات.

وفي عام 1933م؛ عَمِلَ الجراح السوفييتي يوري فورونويYurii Voronoy على أول عملية زرع كلية من إنسان لإنسان، وذلك بعد تجارب عديدة في زرع الكلى من القردة أو الأغنام إلى البشر؛ لتكون عملية فورونوي الأولى من نوعها؛ إذ نُقِلَت الكلية بعد ستِّ ساعات من وفاة المتبرع، وزُرِعَت دون أخذ فصيلة الدم الرئيسة بالحسبان، وهذا على الأرجح كان السبب الأساسي في فشلها. 

وربما يستحق جورج شونGeorg Schöne أن يُعتَرف به بصفته اختصاصي المناعة الأول في زرع الأعضاء نتيجةً لملاحظاته وإنجازاته في هذا المجال؛ إذ أدرك أن رفض العضو هو حدث مناعي -1912-، وهذه الملاحظات وغيرها استند إليها العالم الشاب بيتر مدور Peter Medawar ذو الأب اللبناني الأصل بعد ثلاثة عقود من الزمن ليُرَسِّخَ مفهوم "التحمل المناعي المكتسب" وليأخذ لاحقًا على جائزة نوبل في الطب عام 1960م.

وأخيراً؛ وبالتحديد في 23 كانون الأول- ديسمبر من عام 1954م، سجَّل التاريخ أول عملية زرع كلية ناجحة في بوسطن؛ إذ تخطى جوزيف مواري Joseph Murray وفريقه حاجز الرفض بمساعدة توءم المريض بصفته متبرع لعملية زرع الكلية، وكان أثر هذه العملية فوريًّا على الوسط الطبي، فكانت بمثابة حافز مهمٍّ للجراحين لمتابعة المزيد من الجهود في عملية الزرع، إذ أجرى الدكتور توماس ستارزل Thomas Earl Starzl أول عملية ناجحة لزرع الكبد عام 1967م.

وفي نفس العام أيضًا؛ كان الحدث الطبي الأكثر انتشارًا على مستوى العالم حينها، وهو أول عملية لزرع قلب من إنسان لإنسان بواسطة فريق طبي كبير بقيادة الجراح كريستان بيرنارد Christiaan Barnard.

أما المبادئ الرئيسة التي تؤدي إلى الاستخدام السريري لزرع الأعضاء المختلفة فقد حُدِّدَت في مؤتمر تاريخي عُقِدَ عام 1999م في ولاية كاليفورنيا؛ إذ تضمنت لجنة الإجماع ثمانية أعضاء حائزين على جائزة مدورMedawar (أعلى شهادة تفوّق في جمعية الزرع)، وثلاثة أعضاء حائزين على جائزة نوبل.

أما في الوطن العربي؛ فلا شك بأن هناك كثيرًا من التحديات والعقبات والقضايا التي وقفت في وجه هذه العمليات، ومع ذلك فقد أُجريت أول عملية زرع كلية ناجحة في الأردن في عام 1972م.

وأما أول عملية زرع كبد من معطٍ متوفى، فكانت في مستشفى الرياض العسكري عام 1990م، وأول عملية زرع كبد من معطٍ حيٍّ كانت في جمهورية مصر العربية عام 1991م ،  ومن بعدها بدأت دول عربية عديدة برامج زرع الأعضاء؛ إذ أُجريَت بين عامي 1990 و 2013م ما مجموعه 3804 عملية زرع كبد كان النصيب الأكبر منها لجمهورية مصر العربية تليها المملكة العربية السعودية .

ويوجد حاليًّا أكثر من 29 دولة منضمة إلى جمعية الشرق الأوسط لزرع الأعضاء، وتشمل الدول العربية إضافةً إلى إيران، وتركيا، وباكستان، ودول آسيا الوسطى، وتُعدُّ عمليات الزرع من متبرع حيٍّ العمليات الأكثر إجراءً في الدول المنضمة لهذه الجمعية.

وعلى الرغم من الفوائد الكبيرة التي قد يعود بها زرع الأعضاء من متبرع ميت خاصةً من جانب توفير الطعوم؛ لكنه لا يُجرى على نحوٍ واسع في الشرق الأوسط؛ بسبب الجدل المستمر في المجتمع الطبي حول مفهوم موت الدماغ؛ وعدم وعي بعض شعوب دول الجمعية بأهمية التبرع بالأعضاء.

تعاني دول عربية عديدة من انخفاض في معدل عمليات زرع الأعضاء، ويعود ذلك لأسباب عديدة كانخفاض مستويات البنية التحتية، وعدم كفاية القوى العاملة المدرَّبة، وغياب الإطار القانوني لتعريف الموت الدماغي، والحوافز التجارية التي تفضل غسيل الكلى، إضافةً إلى عقبات أخرى اجتماعية وثقافية وأحيانًا جغرافية.

وأما عن عملية زرع الكبد فإنها تُجرى روتينيًّا وبنجاح في بلدان عربية عديدة، ولكن لايزال نقص الأعضاء هو أكبر عقبة تواجه الحاجة المتزايدة لزرع الكبد في العالم العربي، وعلى الرغم من أنّ التبرع من معطٍ ميت أصبح قانونيًّأ؛ لكن عقبات لوجستيَّة وثقافية لا تزال تقف في وجه التطبيق.

وفي الختام؛ فإنّ هذا المقال قد لخص جزءًا بسيطًا للغاية من جهود وتعب ومعاناة كثير من الأطباء والعلماء والجنود المجهولين من الاختصاصيين والفنيين والمخبريين الذين قدموا كثيرًا حتى رأت أول عملية زرع ناجحة النور، لتستمر سلسلة النجاحات بعدها وتتطور، وإنّ تراكم المعارف شيئًا فشيئًا هو ما أوصل عمليات زرع الأعضاء إلى ما وصلت إليه في وقتنا الحالي؛ إذ بلغ مجموع عمليات زرع الأعضاء الصلبة ما يقارب 135,860عملية زرع في العالم حسب إحصائيات منظمة الصحة العالمية لعام 2016م.

ويبقى الأساس في نجاح أيّة عملية هو الإنسان المتبرع الذي بمجرد اتخاذه قرار التبرع يستطيع إنقاذ حياة مرضى عدة معاً.

هامش*: السدائل الجلدية هي قطع من الجلد السليم التي تُؤخذ من منطقة معينة من الجسم لإصلاح الجلد التالف أو المفقود في مكان آخر من الجسم.

المصادر:

1- هنا

2- هنا

3- هنا

4- هنا

5- هنا

6- هنا

7- هنا

8- هنا

9- هنا

10- هنا

11- هنا

12- هنا

13- هنا