كتاب > الكتب الأدبية والفكرية

مراجعة كتاب "تصوُّف؛ منقذو الآلهة": محاولة لتحرير النفس البشرية من أنانيتها

بدأ (نيكوس كزنتزاكيس) الكتابة الأوَّلية لكتاب "تصوُّف؛ منقذو الآلهة" عام 1914 حين كان في زيارة إلى الجبل المقدس "آيوس أوروس"، وقد أثَّرت هذه الرحلة في مؤلفاته كلها، وصيغت الصياغة النهائية للكتاب في برلين بين عامي 1922 و1923، ولكنَّه نُشِر عام 1927، وقد اعتاد (كزنتزاكيس) في كتاباته أن يخطَّ النسخة الأولية للفكرة التي يريد مناقشتها في الكتاب ثم يعود بعد فترة زمنية لا بأس بها ليعيد صياغتها في الشكل النهائي الذي يرضى عن نشره؛ فمثلًا؛ كان قد كتب المخطَّط الأوَّلي لروايةٍ عن بوذا في أثناء فترةِ إعادة صياغة عمله هذا، ولم يُكملها إلا في عام 1956.

ويناقش (نيكوس كزنتزاكيس) في كتابه (تصوُّف) فكرة التحرُّر من الجسد والنفس، والتماهي في العالم ككل كوننا جزءًا من هذا العالم سعيًا إلى الخلود.

فهو يحاول ترسيخَ تلك الفكرة عن طريق فصول الكتاب، فيبدأ الكتاب بــ(مدخل) يتحدث عن الصراع داخل الإنسان بين السعي إلى الخلود وحقيقة الموت، ويرى أنَّ حلَّ هذا الصراع هو أن ندرك الرؤيا التي تستطيع أن تستوعب هذين الاندفاعين الهائلين الفوضويين واللانهائيين وتجانسهما، وأن نضبط بهذه الرؤيا فكرنا وسلوكنا، ويكون ذلك -في رأيه- عن طريق ثلاثة واجبات:

 أوَّلهم: أن ندرك وأن نقبل حدود العقل الإنساني دون محاولات عصيان لا جدوى منها، وعلينا أن نعمل ضمن هذه الحدود الصارمة دون شكوى أو توقف، وأن نميِّز بوضوح ونتقبَّل الحقائق المُرَّة بشجاعة؛ فسلطة العقل في إدراك الظواهر وليست في إدراك ما خلفها.

ثانيهم: ألا نقبل الحدود ولا تسعنا الظواهر وأن نعيش تلك المعاناة العميقة الشاقة بين قبول تلك الحدود وإدراكها وبين رفضها، فالعقل يتكيَّف؛ لأن له القدرة على الصبر ويعجبه اللهو، ولكنَّ القلب يتوحَّش ولا يقبل لهو العقل، وهو يقفز ويصطخب لكي يمزق شِباك الضرورة، وإذا كان العقل لا يستطيع أن يدرك ما خلف الظواهر فهل يستطيع القلب فعل ذلك؟

ثالثهم: أن ننجو من رعب القلب الذي يبتغي ويتأمَّل العثور على الجوهر، فإذا تخلَّصنا من العقل ومن القلب فحينها قد ننال الحرية.

إنَّ (كزنتزاكيس) يفترض في فصل (المسيرة) أنَّه يكمن في داخل الإنسان شخصان يستغيثان به؛ أحدهما يواجه الخطر، والآخر يحاول الصعود، وعلى الإنسان إنقاذ أحدهما فحسب، وهنا اختار (كزنتزاكيس) الشخص الذي يحاول الصعود وذلك دون أيَّة حجج عقلية، ولكنَّ قلبه هو من دفعه إلى ذلك الاتجاه، فاستمع إلى نداء قلبه واتَّبعه بكل ثقة، وصعد إلى أعلى عن طريق أربعة سلالم.

السلم الأول: أنا

"أنا لست جسدًا مُعلَّقًا لا جذور له في العالم، أنا تراب من ترابه ونَفَس من أنفاسه، لا أخاف وحدي، ولا آمل وحدي، ولا أصيح وحدي، قطاعٌ كبير وقوى هائلة من الكون تخاف وتأمل وتصيح معي، أنا جسر شُيِّد بغير إتقان، أحدهم يعبرني فأتحطم وراءه، أحد المناضلين يخترقني، يأكل جسدي وعقلي لكي أفتح له الطريق، ولكي ينجو مني، إنَّه هو الذي يصيح وليس أنا."

السلم الثاني: السلالة

"الصيحة لا تصدر عنك، لست أنت الذي يتكلم، أسلافٌ بأعداد لا تُحصى هم الذين ينطقون عن طريق فمك."

ويرى (كزنتزاكيس) في السلالة أنَّ أفكارنا وآرائنا كلها هي في حقيقتها ليست نابعة منَّا، ولكنَّنا توارثناها منذ آلاف السنين من الأجداد وأجداد الأجداد، وأنَّه ليس هنالك من فكرةٍ خالصةٍ من قرائحنا؛ فنحن نردد ما قاله السابقون وحسب؛ لذا، علينا أن نميِّز بين ما يستحق الحفظ والتجديد من أفكار الأسلاف وما يستحق الترك والتحطيم.

السلم الثالث: الإنسانية

"أنت لا تتكلم وحدك، ولا تتكلم سلالتك وحدها عن طريقك، ففي داخلك تصطخب وتتصايح أجناسٌ لا تُحصى من البشر؛ بيض وصفر وسود."

يدعونا (كزنتزاكيس) في الإنسانية أن نتحرَّر من السلالة أيضًا، ونجاهد لكي نحس بالإنسان المُكافح في كل مكان.

السلم الرابع: الأرض

"إنَّ الأرض تنهض على عقلك فتشاهد لأول مرة جسدها كاملًا.. تقشعر، إنَّها حيوان يأكل ويتوالد ويتحرك ويتذكَّر، تجوع الأرض فتأكل بَنِيها: نباتات وحيوانات وبشرًا وأفكارًا .. تطحنهم داخل فكَّيها المُظلمين، وتمررهم على طول جسدها ثم تدلقهم على التراب."

يرى (نيكوس كزنتزاكيس) أنَّه علينا النجاة من جوع الأرض، وأنَّ سبيلنا إلى النجاة هو استمرار الحياة وانتقالها عن طريقنا إلى أبناء يتفوقون علينا.

ويعرض (كازنتزاكيس) رؤيته عن علاقة الإنسان بالإنسان، والإنسان بالطبيعة والسكينة عرضًا فلسفيٍّا يتوغَّل في أعماق النفس البشرية.

وتُعَد ترجمة هذا الكتاب أول ترجمة لمؤلفات (كزنتزاكيس) من اليونانية إلى العربية مباشرةً؛ إذ كانت أعماله تُترجم -قبل ذلك- إلى العربية من الإنجليزية وليس من اليونانية.

معلومات الكتاب:

الكتاب: تصوُّف؛ منقذو الآلهة.

الكاتب: نيكوس كزنتزاكيس.

ترجمة: سيد أحمد علي بلال.

عدد الصفحات: 83 صفحة

تاريخ النشر: 1998

دار النشر: دار المدى للثقافة والنشر.