الطب > سؤال طبي‬

لقد أصبحوا فنانين فجأة؛ والفضل يعود إلى العته

قد يُعدُّ الجنون شكلًا من أشكال العبقريّة حسب مفهوم أرسطو، وكذلك فقدان القدرات المعرفيّة يمكن أن يكون شكلًا من أشكال الفنّ، فقد لا ترتبط القدرة على إنتاج "شيء جميل" بالذكاء العالي أو المثابرة على التدريب مرارًا و تكرارًا بقدر ما تكون نافذة من التحرُّر من القيود وانسياب النفس مع اهتماماتها العليا لتخلق أشكالًا فريدة من التعبير، فإذ بها تلامس الروح و تسمو بها حتى ندعوها فنًّا!

نستطيع أن نجد هذا الشكل من الإبداع عند مرضى أصيبوا بشكل خاص من أشكال العته، وهم مرضى "العته الجبهي الصدغي" الذي يُعرف بأنه تنكُّس تدريجي في الخلايا العصبيّة يصيب مناطق محدّدة في مقدّمة الدماغ، وهي التي -وعلى الرغم من أذيَّتها- تسمح لأجزاء أخرى من الدماغ أن تنشط، فتظهر قدرات جديدة لم تكن موجودة عند المريض قبل الإصابة بالمرض؛ ممّا يميّزه عن باقي أشكال العته كألزهايمر، وهو الذي عادة ما يُصيب كلَّ أجزاء القشرة الدماغيّة دون أن تنشط مناطق على حساب أخرى.

يتميَّز مرضى "العته الجبهي الصدغي Paradoxial functional facilitation"بزيادة نشاط المناطق الخلفية من الدماغ، وهي تلك المكرّسة للمعالجة البصريّة و العمليّات الإبداعيّة، وذلك بعد إصابة المناطق الأماميّة منه؛ إذ تدعى هذه العملية بـ ـ"التسهيل الوظيفيّ المتناقض"، ففي حالة هؤلاء المرضى يصيب التنكُّسُ الأجزاءَ الأمامية من الدماغ المسؤولة عن اللغة والمحاكمة العقليّة وتعرُّف الوجوه؛ ممّا يسمح للأجزاء الخلفيّة منه والمرتبطة بالمعالجة البصريّة بالتطوّر؛ الأمر الذي يُعزِّز المهارة على إنجاز المهام البصريّة كالقدرة على استخراج الأهداف من ضمن مشتتّات عديدة، وزيادة الانتباه. 

يقول ويليام جيمس (أحد أهم الفلاسفة في أمريكا في بداية القرن الـ 19): "كل واحد منا يختار حرفيًّا من خلال طرقه في الانتباه إلى الأشياء، أيّ جزء من الكون سوف يظهر له ليسكنه". إذ تؤدّي التسهيلات المتناقضة للوظيفة البصريّة عند مرضى العته الجبهيّ الصدغيّ إلى نافذة جديدة نحو الإبداع في الفنون البصريّة، وذلك نظرًا إلى التأثير الذي يحظى به الانتباه على الهُويّة وتطوّر المعالجة البصريّة المكرّسة لذلك، إضافة إلى إطلاق سراح المريض من القيود الرسميّة للتدريب بفضل فقدان وظيفة الأجزاء الأماميّة من الدماغ المرتبطة بالتثبيط الاجتماعيّ، ووبهذا يؤدي إلى الوصول إلى حالة من "إزالة القناع unmasking" التي عادة ما تُثبَّط في الحياة اليومية.

بعد الإصابة بهذا النوع من العته؛ يبدأ المرضى بإنتاج رسومات معبّرِة، أو كتابة قصائد تحمل أفكارًا روحيّة جديدة كالتحدّث عن الطبيعة وإلهامها لهم لكتابة أشياء جميلة، فعلى الرغم من تدهور المعرفة الدلاليّة لمعاني الكلمات نجدهم يطورون اهتمامًا في التلاعب بالألفاظ وصياغة القوافي، وذلك عند إصابة المرض للأجزاء الأماميّة  في النصف غير المسيطر من الدماغ؛ الأمر الذي يطلق دارات اللغة في النصف المسيطر، وهكذا نجد أنَّ ارتجال الشعر عند هؤلاء المرضى غنيٌّ بالعبارات الموسيقية الرنَّانة، و الكلام المقفَّى الذي يحمل في طيَّاته روح الانطلاق والتحرُّر من القيود ، فيطغى الأسلوب العاطفيّ والانطباعيّ عند هؤلاء المرضى على الأصالة والواقعيّة ولكنّه قد ينتج أعمالًا فريدة من نوعها.

إنّ الأسلوب هو أكثر بصمة شخصية للفنان وهو الذي يتوافق مع تفرُّد كل فرد وكل دماغ، وأيُّ اختلال وظيفي دماغي قد يؤدي إلى تعديلات نمطية، نذكر من الأمثلة في تاريخ الفنّ عن التغيرات التي يُسبِّبها علم الأمراض في الإبداع الرسَّام "جورج براك" الذي عدَّل أسلوبه التكعيبيّ على نحو دراماتيكي بعد إصابة رأسه في الحرب العالميّة الأولى التي توضَّعت في الأجزاء الأماميّة من دماغه، وهناك المخرج السينمائي "فيديريكو فيليني" الذي أنتج رسومات هزلية مثيرة للاهتمام بعد سكتة دماغية في النصف الأيمن من دماغه.

إنّ المثابرة على التدريب لإنتاج عمل أصيل هو أساس كل جميل، ولكن قد يظهر الجميل من حيث لا نتوقَّع ويأسرنا بسحره حتى لو كان ضربًا من الجنون!

المصادر:

1- هنا

2- هنا

3- هنا

4- هنا

5- هنا