الفنون البصرية > فنانون عالميّون

راشيل رويش "أعجوبة هولندا"

على شرفاتنا، وفي أصيصها القرميدي البسيط، تتمايل البتلات الرقيقات على ساقها الأخضر النحيل مع نسمات الهواء ناثرةً غبارها لتغري النحل النشيط به.. مشهدٌ اعتادت أعيننا عليه حتى أفقدتنا العادة قدرتنا على رؤية السحر الذي يختبئ بين درجات ألوان البتلات الزاهية وميلان ساقها وتجاعيد ورقتها ورقصة النحلة وهي تتأمل حبات طلعها وبين تفاصيل أخرى تفوت أعيننا الملولة، لكنها لم تفت راشيل رويش، فالتقطتها بدقة ومهارة وشغف.. امرأةٌ كانت رسامة قبل كل شيء، وأصبحت "أعجوبة هولندا" رغم كل شيء.

•بداياتها:

ولدت راشيل رويش (Rachel Ruysch) في عام 1664م، ونشأت في كنف عائلة ثرية ذات مكانة مرموقة من فنانين ومهندسين وعلماء هولنديين. أبوها فريدريك رويش (Frederick Ruysch)، عالمٌ وبروفيسور في التشريح وبيولوجيا النباتات وكان يمتلك مجموعة مشهورة من عينات تاريخية طبيعية ونادرة صنَّفها بمساعدة ابنته راشيل.

شجع والدها موهبتها في التأمل والتمعن في العالم الطبيعي ومعالجتها العلمية الدقيقة للزهور والنباتات، لتصبح بعمر الخامسة عشر متدربةً لدى فنان الطبيعة الصامتة فيليم فان إلست (Willem Van Aelst)، وبدأت في الثامنة عشر إصدارَ لوحات الطبيعة الصامتة الخاصة بها منطلقةً بمسيرة مهنية مميزة استمرت حتى وفاتها عام 1750.

تزوجت بعمر التاسعة والعشرين من الرسام يوريين بول (Juriaen Pool)، وانتقلت إلى مدينة لاهاي (The Hague) حيث تعرفت إلى مجتمع فني يهتم بتسويق مبيعات أعمال الفنانين في المدينة وتنظيمها، فانضمت إليه لتُسجَّل كأول عضو أنثى فيه.

•تأثير واقع هولندا على الفن:

بعد أن استقلت هولندا وازدهر اقتصادها، وبعيدًا عن رقابة الملكية والكنيسة اللتان خسرتا سلطتهما في هولندا، أنتج الفنانون لوحاتهم للزبائن مباشرةً، وعلى عكس ما كان رائجًا في السابق، لم تعد اللوحات ذات المحتوى الديني والأسطوري مرغوبة، بل حل محلها في الذوق العام لوحاتُ الطبيعة الصامتة أو تلك التي تصوِّر الحياة اليومية التي كانت مصدر فخر للهولنديين المستقلين حديثًا، فقد كانت تعكس نجاحهم التجاري وترفهم الاجتماعي.

سارت مسيرة راشيل الفنية بالتوازي مع نمو صنعة هندسة الحدائق في هولندا وتطور علم النبات، وخاصةً بعد أن أصبحت الزهور موضع تقدير، لا لفائدتها الصحية فقط، بل لجماليتها وعطورها المتنوعة أيضًا، وأصبحت رفاهيةً ورمز سلطةٍ مرغوب به من قبل الأغنياء، فعمل علماء البيولوجيا النباتية المزارعون على جلب أندر أنواع الزهور من أقاصي البحار. ومن تلك الزهور النادرة، كانت زهرة التوليب الأكثر تميزًا، وهي بطلة أول فقاعة اقتصادية* شهدها العالم، والتي عرفت لاحقًا بحمى التوليب.

وبذلك أصبح الرسام الهولندي الواقعي موضع تقدير أكبر كلما ازدادت مهارته في نقل الواقع بأدق تفاصيله، مثل التفاصيل العلمية الدقيقة الوفيرة الظاهرة في كل زهرة من لوحات رويش، ومنها لوحة زهور طبيعة صامتة (Flower still life) الموضحة أدناه، التي نقلت فيها رويش تفاصيل كل بتلة وساق وورقة بدقة تامة، وجسدت بمهارةٍ منقطعة النظير تباين الملمس بين أوراق البتلات بالغة الرقة، وأوراق السيقان الجافة والمجعدة، إضافةً إلى الحشرات التي كانت لها حصةٌ كبيرة من الاهتمام والإتقان في لوحاتها، أمرٌ يمكن ملاحظته بسهولة في النحلة الصغيرة والفراشة البيضاء إذا ما اقتربنا من اللوحة.

لوحة زهور طبيعة صامتة (Flower still life) 

•لوحة زهور طبيعة صامتة Flower still life:

في هذه اللوحة، إذ تنهال الزهور خارجَ المزهرية بسخاء مالئةً القماش، جمعت رويش أصناف زهورٍ هولنديةٍ محليةٍ وأخرى مستوردة في باقة غير متناسقة، وعلى عكس باقات رسامين عصرها، عُرفت الفنانة بباقاتها الحيوية والبعيدة عن المعتاد في المظهر.

وعند التمعن بها، تنقاد أعيننا خلف زهرة الأقحوان (Marigold) المنسدلة يساراً باتجاه زهرة الخشخاش الحمراء (Red poppy) في أعلى اليمين، تجذبها الزهور الهادئة الألوان بتمهل نحو المنتصف، ثم يشدها زهو جاراتها المحيطات بها لتنتهي رحلتنا على الأطراف حيث تتناثر الأزهار الصغيرة الداكنة، فنعود خطوة إلى الخلف لنُؤسر بالانسجام الذي يخلقه التوازن بين الأصفر والوردي الدافئين من جهة مع برودة الأخضر والأزرق من جهة أخرى، في حين يعزز تبادل الضوء مع الظل الزهورَ ويبرزها في جو درامي تاركةً خلفها الحائط الداكن.

وعلى الرغم من واقعية لوحات رويش، لكنَّ بعض الأكاديميين أضاؤوا جانبًا رمزيًا آخر لزهورها، وتستند إحدى القراءات الشائعة إلى مبدأ الـVanitas؛ وهو رسالة أخلاقية كانت شائعة في ذلك العصر ومذكورة في الإنجيل، مضمونها أن الجمال سيزول وجميع المخلوقات الحية مَآلُها الفناء.

وقد أسقط أولئك الأكاديميون نظريتهم تلك على اللوحة بدلالة الأزهار الذابلة والحشرات التي تغذت على الأوراق مخلفةً ورائها ثقوب تدل على أثرها، فكانت تذكيرًا للأغنياء الهولنديين ألَّا ينغمسوا في ممتلكاتهم المادية والملذات الدنيوية، ذلك أن الخلاص الأبدي يتحقق عبر الإخلاص إلى الله.

راشيل رويش المرأة، والرسامة، والزوجة، والأم، التي وجدت -رغم أولادها العشر وضغوط الواجبات المنزلية الهائلة- من الوقت والإرادة والشغف ما يكفي لتنتج أكثر من 250 لوحة على مدى سبعة عقود، وتحقق شهرة واسعة النطاق وتقديرًا عالميًا لموهبتها ولوحاتها التي أظهرت فيها مهارةً عالية، فكانت دليلًا على دقة أسلوبها وإتقانها في نقل سحر الطبيعة وغناها. كلُّ ذلك ليس إلا غيضًا من فيض عن امرأة كانت من أنجح فناني عصرها حتى استحقت لقب "أعجوبة هولندا" بكل جدارة.

الفقاعة الاقتصادية: يُطلق هذا المصطلح عندما يرتفع سعر سلعة مشهورة ما ارتفاعاتٍ كبيرة على نحو سريع، ومن ثم تعود لتنخفض انخفاضًا مفاجئًا.

المصادر:

1- هنا

2- هنا

3- هنا