الفلسفة وعلم الاجتماع > الفلسفة

هل الأطفال قادرون على التفكير الفلسفي؟

في تجربةٍ جديدةٍ من تاريخ الفِكر والفلسفة أُثيرت أسئلةٌ جدلية عن (تفلسف الأطفال) وقدرتهم على التفكير الفلسفي طويل المدى، وهذا ما شَرَع بالمُختصِّين للتوجُّه نحو أفكار جديدة تدور في أُفق المنهج التربوي للأطفال وتحديد مقدار أهليتهم لممارسة التفكير الفلسفي، والفلسفة بجوهرها تعني حُبّ الحكمة والتفكير التحليلي، والأطفال -على ما يبدو- لهم عالمهم الخاص من الشكوكية والتحليل الفلسفي.

ويبدو أن تدريس الفلسفة قبل المرحلة الثانوية ما زال غير شائعٍ نسبيًا في معظم دول العالم، على الرغم من أن الفلسفة حققت في الوقت الحالي دخولَها الرسمي في المناهج الدراسية في كثير من دول العالم، ابتداءً من المرحلة الثانوية -حيث تُدرَّس مُقدمة عن الفلسفة- انتهاءً بالكليّات الأدبية والاختصاصية في مجال الفلسفة، وقد يشير هذا -اعتمادًا على بعض الأسباب التي قد تبدو مقنعة في البداية- إلى أنّ التفكير الفلسفي الجاد لا يصلح لمرحلة ما قبل المراهقة. 

وهناك سببان لتبني مثل هذا الرأي:

- أولهما أنّ التفكير الفلسفي يحتاج مستوىً معيّنًا من التفكير المعرفي، الذي يتشكّل في مرحلةٍ ما بعد المراهقة.

- ثانيهما أنّ المنهجَ الدراسي قبل المرحلة الثانوية يحتوي على كثير من المواد، وإدخال مادة الفلسفة لن يشتت فكر الطالب فحسب، بل سيجعله ميالًا للشك بدلًا من اكتساب العلم. 

 ولكن يواجِه كلا هذين السببين اعتراضًا تبعًا لماهيّة فلسفة الأطفال؛ إذ يُشار عبرهما إلى أهمية كثير من الأسئلة لدى الأطفال التي تُشير إلى قدرتهم في التفكير الفلسفي، وخاصة تلك المرفقة بالتخيلات والتكهنات غير الراضخةِ للحدود المعرفية المُتبعة لدى البالغين، في حين يبدو الأطفال بهذه الحالة أنّهم فلاسفةٌ طبيعيّون، ولكن في المُقابل سرعان ما تبدأ روح التفلسُف والاستقصاء للمحيط بالتلاشي بعد أن يبلغ سنّ الثامنة أو التاسعة، وهذا ما يترك لنا مجموعةً أُخرى من الأسئلة مثل: ماذا طرأ عليهم؟ وما دور البالغين في ذلك؟ وهل الأطفال قادرون على التفكير الفلسفي؟

بحثَ الفيلسوف الأمريكي غاريث ماثيو (Gareth Matthews) في هذه المواضيع وأطلق عليها The Philosophy of Childhood فلسفة الطفولة؛ إذ يعمد إلى الكشف عن فلسفةٍ تمثِّل مدى قدرة عقول الأطفال الفضوليين على التفلسف كأنهم فلاسفة طبيعيّون، وما الحواجز التي تقف في وجه هذا النوع من التفكير الفلسفي.

يرى ماثيو أنَّ حقيقةَ الحدِّ من قدرة التفلسف لدى الأطفال تعودُ إلى تأثير البالغين فيهم، ممّا يجمّد هذه النزعة الفلسفية في عقولهم، وهذا عن طريق وضع مفاهيم تقييدية للتفكير؛ وخصوصًا فيما يتعلق بالنضج والتطوّر المفاهيمي، والهفوات المحتمل وقوعها في الذاكرة المؤقتة لدى الطفل؛ مثل الهوية والنمو -التي تفصلنا عن طفولتنا-، وهذا عبر تدعيم البالغين لوجهات نظرهم الراشدة في عقول الأطفال؛ ممّا يحدّ ويُقيّد التفكير الفلسفي لديهم.

يشيرُ عالمُ النفس السويسري جان بياجيه (Jean Piaget) إلى أنه قبل سن 11- 12 عامًا فإن معظم الأطفال غير قادرين على التفكير الفلسفي، وهذا يعودُ لعدمِ قدرتهم على "التفكير في التفكير"، وهو نوع من التفكير المعمّق الذي يميّز التفكير الفلسفي، وهم قاصرونَ أيضًا عن التفكير المنطقي وعن التطوّر المعرفي والعلاقات التي تربط الأشياء، مثل "الدرّاجة بالنسبة إلى المقود، في علاقة شبيهة بعلاقة السفينة بالنسبة إلى الدفّة؛ فآلية التوجيه هنا هي نقطة التشابه بين العلاقتين"

ومع ذلك، هناك مجموعةٌ واضحةٌ من الأبحاث النفسية التي تشير إلى أن نظرية بياجيه تقلل من القدرات المعرفية للأطفال. 

ولهذا فقد تجاوز الفيلسوف غاريث ماثيو هذه الاستنتاجات التي توصَّل إليها جان بياجيه وذهب بتفكيره إلى أبعد من ذلك، بل عدَّه فشلاً في رؤية التفكير الفلسفي لدى الأطفال، وقدَّم عددًا من الأمثلة التي تجسِّد التفكير الفلسفي والحيرة الفلسفية الكامنة في عقولهم، وهذا عن طريق أسئلتهم الطفولية مثل:

- سأل طفلٌ في عمر ست سنوات تقريبًا، أبي، كيف يمكن لنا أن نتأكد أن كلَّ شيءٍ ليسَ حلمًا؟

- وسأل آخر -في عمر خمس سنوات- وهو ينام في الساعة الثامنة مساءً؛ إذا ذهبت للنوم في الثامنة واستيقظت في الساعة السابعة صباحًا، كيف أتأكد حقًا أن العقرب الصغير في الساعة لم يَدُرْ أكثرَ من مرة حتى الوصول إلى الرقم سبعة؟ هل يجب علي البقاء مستيقظًا طوال الليل لمشاهدته؟

ومع كثير من النماذج التي دوّنها غاريث ماثيو لدراسة تفلسف الأطفال، بقي هناك اعتراضٌ على أنها لا تكفي لعدّ الأطفالِ قادرين على التفكير الفلسفي العميق، بل يجبُ توضيح قدرة الأطفال على المناقشة الفلسفية المستمرة، وهذا ما شَرَع ماثيو لإثباته من جديد عبر مجموعة من التجارب المطوَّرة مع الأطفال، والتي أثارت بدورها نقاشًا حيويًّا عن حقوق الفرد والأنانية لديهم:

"إيان" طفلٌ في عمرِ ست سنوات، يشعر بالغم واليَأس بعد أن احتكر ثلاثة أطفال من أصدقائه مشاهدة التلفاز، وأبعدوه عن برنامجه المفضّل، فسأل حينها: "لماذا وجود ثلاثة أطفال أنانيين أفضل من وجود طفل أناني واحد؟" ممّا أثار بينه وبين باقي الأطفال حواراً مطوّلاً عن حقوق الفرد وتعريف الأنانية، وقصة إيان هنا، وكثير من القصص المشابهة والتحديات التي يواجها الأطفال في حياتهم المُبكرة، قدّ تفتح نقاشًا مستمرًّا عن فهم العلاقات فيما بينهم، وممّا يحثُّهم على تكوين تصوّرٍ متطوّرٍ لحل مشكلاتهم الخاصة، وهذا ما قدَّمه ماثيو في كتابه (حوار مع الأطفال) Dialogues With Children عبر دراسات وأدلة جيدة توضِّح قدرة الأطفال على التفكير الفلسفي.

ومع نيل فلسفة الأطفال للاهتمام وإثارتها للتساؤلات عبر التاريخ، بدأت الحركة التعليمية المعروفة باسم فلسفة الأطفال   هنا    في أوائل السبعينيات من القرن العشرين مسيرتها نحو تعليم الفلسفة للأطفال، واُنشِئ فيما بعد المعهد رسميًّا في منتصف السبعينيات من القرن العشرين، ويروّج معهد IAPC في الوقت الحالي دروس الفلسفة لجميع الطلاب من مرحلة الروضة حتى الصف الثاني عشر، ويعملُ على تطوير أساليبَ جديدةٍ لإحياء فلسفة الأطفال، واُنشِئ المجلس العالمي للاستفسار الفلسفي مع الأطفال عام 1985    هنا;   وهي شبكة عالمية من الأشخاص المهتمين بإشراك الأطفال في الحوار الفلسفي، وتعمل على تعزيز التواصل بين الممارسين والباحثين والمربين ودعاة التفكير الفلسفي عبر تنسيق فعاليات دولية ومبادرات بحثية مستمرة لدعم نموّ الأطفال عبر الفلسفة.

ولأن الأطفالَ قادرون على التفكير الفلسفي الذي بدوره ينمّي قدراتهم الفكرية وقدرتهم على إيجاد الحلول المنطقية ممّا يؤهلهم لخوضِ الحوارات الفلسفية طويلة المدى، هل سبق لك وخضْتَ حوارًا فلسفيًّا مع طفلك؟                                                                                         

المصادر:

1- هنا

2- هنا