كتاب > الكتب الأدبية والفكرية

مراجعة كتاب (قلق السعي إلى المكانة): النار التي تضيء وتحرق في آنٍ واحد

مثيرةٌ للاهتمام تلك الكتب التي تتناول موضوعات تمسُّ الناس جميعهم دون أيِّ استثناء، فكيف إذا كان الموضوع واحدًا من أهم نوازع النفس البشرية وأعمقها، ألا وهو الرغبة في حيازة المكانة في المجتمع؟

"قلق السعي إلى المكانة"، هو عملٌ للكاتب والباحث البريطاني السويسري (آلان دو بوتون)، وقد لاقى رواجًا وإقبالًا لافتًا.

فبوتون يعالج في كتبه قضايا معاصرة ويسعى إلى التأكيد على ارتباط الفلسفة بالحياة اليومية دائمًا، ولكنَّه يصطحبنا هذه المرة في رحلة تجاه النفس الإنسانية، فيغوص بنا إلى أكثر مستوياتها عتمة، ويروي قصةً لا تُسرَد جهارًا عادةً، ولا نعترف بها حتى أمام أنفسنا، إنَّها قصة سعينا وراء حب الناس، وهي على حدِّ قوله "حكايةٌ مُخجِلة وسرية". 

"معنى إبداء الحب لنا أن نشعر أنَّنا محطُّ انشغال وعناية: حضورُنا مُلاحَظ، واسمنا مُسجَّل، وآراؤنا يُنصَت إليها، وعيوبنا تُقابَل بالتَّساهل، وحاجاتنا مُلبَّاة."

ويعرِّف بوتون قلقَ المكانة بأنَّه قلق ينتاب الإنسان خوفًا من أن يخفق في كسب علامات الاحترام والمنزِلة في أعين مجتمعه، فيعمد بوتون إلى معالجة أسباب هذا القلق في القسم الأول من الكتاب، ثم ينتقل في القسم الثاني إلى اقتراح الحلول، ويعالج بوتون كلا القسمين باستخدام الأدلة النفسية والتاريخية والسياسية تارةً، وبالاستشهاد بحياتنا اليومية المعاصرة تارةً أخرى، وكل ذلك بأسلوب سلس ومشوِّق ومحبَّب يأسِرُك من بداية الكتاب حتى نهايته.

ما الذي يُشعل نار قلقنا؟

يُحصي الكتاب خمسة أسباب رئيسة تُسهم في تأجيج نار قلقِ المكانة، ويبدأها برغبة الإنسان في الأزلية والأبدية بالحب، إلى درجة أنَّه يفسر بعضًا من السلوكيات البشرية في تحصيل المال لا رغبةً به في حدِّ ذاته، بل طمعًا بالمنزلة التي ستوفرها حيازته، والتي ستؤمِّن بدورها مقدارًا أعلى من الانتباه والحب.

"إنَّ الدافع المُهيمن وراء رغبتنا في الارتقاء على درجات السُّلم الاجتماعي قد لا يكون مرتبطًا بما نراكمه من سلعٍ مادية أو ما نحوزه من سُلطة، بقدر ما يرتبط بمقدار الحب الذي نتطلَّع إلى أن نلقاه نتيجةً للمكانة العالية."

ويسترسل بوتون في شرح أسباب أخرى تجعلنا نقلق إزاءَ مكانتنا في عالمنا المعاصر ذي الوتيرة المتسارعة والتنافسية خصوصًا؛ إذ يزداد تقدير المادة يومًا بعد يوم، ثم يقارن ما بين عالم الأمس الذي كانت المكانة فيه تُكتَسب بالولادة، ونتيجةً لعوامل لا شأن للإنسان فيها؛ كالهوية والعِرق والطبقة الاجتماعية، وما بين عالم اليوم الذي يستطيع الإنسان فيه تكوينَ مكانته بنفسه عن طريق السعي إلى النجاح المهني فالمالي، فهل كان هذا التحوُّل الذي منح الإرادة الخاصة حريتها وانطلاقتها إيجابيًّا بالمُطلق؟ وماذا عن القلق المتزايد الذي تسببه مُطالبتنا شبه الدائمة في تحسين حياتنا ومكانتنا؟ أسئلةٌ كثيرة ومؤرِّقة لا يتوانى الكاتب عن تفصيلها وشرح ملابساتها.

ماذا نفعل حيال هذه النار المضطرمة إذًا؟

ويقدِّم بوتون بعد عرضه جذورَ المشكلة أنواعًا مختلفة من الحلول التي تقوِّض -في نظره- دعائم أنظمة المكانة الاجتماعية، أو تُخَلْخِلُ بُنيانها على الأقل، عن طريق طرح أنواع مختلفة من التراتبية لا تحتلُّ فيها الثروة الصف الأول، فيبدأ من الفلسفة، وينتقل إلى الفنِّ، فالسياسة، ثم الدين، والبوهيمية أخيرًا.

"إنَّ تاريخ الفنِّ حافل بتحديات نظام المكانة؛ تحديات قد تتخذ شكلًا ساخرًا أو غاضبًا أو غنائيًّا أو حزينًا أو طريفًا."

وفي عرضه لأهمية الفنِّ بكل أنواعه في الاعتراض على نظام المكانة، يُقدِّم إلينا نماذجَ مُتميِّزة من الأدب، مؤكدًا على دوره في اكتشاف مكامن الخلل والقصور في كل نظام اجتماعي يُمجِّد المال والجاه والسُلطة، فيضرب لنا مثالًا روايةَ جاين أوستن مانسفيلد بارك (1811)، ويقول فيها: "تتخلَّى الروائية عن عدسة الحكم والقياس التي يُنظَر عن طريقها إلى الناس في المجتمع؛ تلك العدسة التي تُضخِّم حجم الثروة والنفوذ، وتستبدل بها عدسةً أخلاقية بؤرتها هي الخصال الأدق والأرفع في حياة كل إنسان.. داخل عالم الرواية يبدو توزيع الفضائل بين الأشخاص لا علاقة له بالثروة المادية."

ويستدرك بوتون -أخيرًا- أهميةَ أنظمة المكانة في المجتمع على الرغم من كل الأسى الذي تسببه للبشر، فهي سُنَّة من سنن الطبيعة في النهاية، قديمةٌ قِدَم وجود الإنسان على الأرض، وإن اختلفت معاييرُها وتغيرت أشكالها من زمنٍ لآخر.

"مهما كان القلق بشأن المكانة مزعجًا، فمن الصعب أن نتخيل حياةً طيبة تخلو منه تمامًا، ذلك أنَّ الخوف من الفشل ومن الخزي في أعين الآخرين عاقبة لا بدَّ منها لامتلاك طموحات.. قلقُ المكانة هو الثمن الذي ندفعه مقابل إدراكنا أنَّ ثمَّة تمييز مُتفق عليه بين حياة ناجحة وحياة غير ذلك."

معلومات الكتاب:

الكتاب: قلق السعي إلى المكانة، الشعور بالرضا أو المهانة.

الكاتب: آلان دو بوتون.

ترجمة: محمد عبد النبي.

دار النشر : دار التنوير.

تاريخ النشر: 2018. (تاريخ نشر النص الأصلي 2004)

عدد الصفحات: 311 صفحة.