كتاب > الكتب الأدبية والفكرية

مراجعة كتاب (الفراغ الذي رأى التفاصيل): رحلة مجنونة في عالم استثنائي

مرهقٌ ومُمتع واستثنائي هذا العالم الذي يورطك فيه هذا الكتاب، ولذةٌ لانهائية تلك التي تعيشها في لغة حسين البرغوثي وفي متاهاته وجنونه ووعيه المُستفِز.

فتذكَّر أولًا وأخيرًا أنَّه على قدر فراغك يكون مقدار ما يمكنك أن تحمل من تفاصيل؛ لذا، اسأل نفسك كما سأل حسين: "كم سيمر حتى تصبح الحرية ممكنةً لا مجرد مأساة يُكرِّرها العاجزون عن الحرية؟"

إنَّ  الشاعر والمُفكِّر الفلسطيني (حسين البرغوثي) صاحب الرائعة الأدبية (الضوء الأزرق) يخلق فيك فراغًا هائلًا لتصير أنت التجربة وأنت الكتاب وأنت كل تلك التفاصيل، فيحاكي فيك الجنون، وتراه وتلمسه وتحاوره، ولا يخفى عليك تعلُّق الكاتب بفلسفة المكان؛ إذ إنَّ "المكان في تجربة حسين مركزي، ولا يمكن فهم تجربته دون الالتفات لجوهرانية المكان فيها".

ويُعدُّ كتاب "الفراغ الذي رأى التفاصيل" تجربةً فريدة استثنائية تتطلَّب مجهودًا فكريًّا كبيرًا لإدراك البُعد الروحي، فقد تجد بعض الأجزاء العصية على الفهم والتي تحتاج القراءةَ أكثر من مرة لتجد الجواب، لتكثر فيك الأسئلة وتغوص في المتاهة الشهية عميقًا.

وتبدأ التفاصيل من صفحة الغلاف بتصميم رائع للفنان (جمال الأفغاني)، ومقدمة للكاتب والشاعر (مراد سوداني) بعنوان (الهندسة العليا على محور الكون)؛ إذ يُقدِّم إلينا هذا الكتاب بوصفه "نواة مشعَّة انشقَّت عنها رائعة المعلم (الضوء الأزرق)"، وأنَّها "عتبةٌ ضرورية وأكيدة لفهم كتاب الضوء الأزرق"، مُضيفًا نُتفًا وتعليقات على مدونة حسين البرغوثي الإبداعية ونقاطًا تتعلق بالتجربة، واصفًا حسين في نهاية المقدمة بأنَّه "عرَّاف بلادنا، الرائي الذي أبصر بالقلب لا بالفلسفة وطفح وباح وتنبَّأ فاتَّسع".

وهذا الكتاب بفصوله الخمسة يبدأ بفصل يحمل عنوان الكتاب نفسه "الفراغ الذي رأى التفاصيل"، وهذا الفصل كان بمثابة رحلةٍ في عوالم حسين، وبين حواراته الداخلية، فثمَّة فراغٌ يستحوذ عليك ويتلبَّسك، وهو مليء بتفاصيل الخوف واللذة والحب والحرية والمرأة والتوق ومخلوقات الهامش، وهو مزيجٌ هائل يَفتعل إعصارًا في الذهن، وإحساسًا غريبًا بتماهيك مع تلك العوالم وكأنَّك فسحة من هذا الفراغ العميق المليء، ولا يغيب حضور المكان في هذا الفصل ولا في فصول الكتاب الأخرى أيضًا.

ويسافر بك الفصل الثاني بعنوان "ذاكرة عادية في زمن غير عادي" في الزمن إلى عام ١٩٧٧، فهناك صورة حسين الطفل الباكي، ومنه إلى عام ١٩٨١، والذي كان فيه الاحتلال والعجز والتوتر وفقدان الثقة، مُكملًا معك الرحلة عبر السنوات إلى عام ١٩٨٨؛ لتخوض لحظات حاسمة من حياة حسين ورفاقه وتراقب الشارع الفلسطيني من عيون أبنائه، وتعيش الحصار والاستنفار والاعتقال وسهرات الأغاني والنضال، وتجلس مع حسين في عزلته وتقرأ خواطره، فتضحك وتبكي معه.

ويغوص بك الفصل الثالث بعنوان "الأنا والمكان" في شاعرية المكان، ويُغرقك في لحظات فقدان الإدراك وما تحمله من طاقةٍ روحية غامضة، فيضعك في مواجهةٍ مع الأنا لتتحرَّر من رابطة الياء، وتعيش في حالة من الحضور المحض وتصير كما هو "حرًّا، رغم أنفي، من إدراكي المألوف للمألوف".

ويبدأ الفصل الرابع بعنوان "عن المكان المُنقرض" باقتباس لأدونيس يقول فيه: "وكان ذلك حين انقرض المكان وتوحَّش، وطاردتني المساحة"، ويدرس فيه حسين التغيرات المعمارية الطارئة في مدينة رام الله ويفكِّك عملية إنتاج المكان عن طريق التوالي الزمني، وما يفتعله المُحتل من أكاذيب ليصطنع ملكيةَ الأرض، فيصف الاستيطان على أنَّه مكان زاحف يبتلع الأراضي، ويكون ظاهرةً سمَّى هذا الفصل باسمها "المكان المُنقرض".

وفي النهاية، يتمحور الفصل الخامس والأخير بعنوان "وهم البداية.. شبح المكان" عن بدايةِ خلق الذات الواعية مُستعرِضًا بعض الأساطير التي تتعلَّق ببداية الخلق وعلاقة الذكر والأنثى، راجعًا بك إلى ما قبل البداية "وهم البداية" و"شبح المكان" المرافق لرحلتنا منذ الأزل.

"الذهن يستطيع أن يلدغ نفسه"؛ نعم هذا صحيح! وفي إحدى لحظات توحُّدك مع هذا الكتاب سوف "يبدو كأنَّ الأشياء تتعرى من أسمائها، ويبزغ ما يسميه لاوتسو بــ(اللامسمَّى)، إنَّه حضورٌ شامل وراء اللغة، إطلالةٌ للوجود أكثر ممَّا هي للموجود".

وتنتهي الرحلة، ويتركك حسين مع انتهاء الكلمات وأنت غارق في شرود ذهني أو ما يشبه الفراغ الذي رأى التفاصيل.

معلومات الكتاب:

الكتاب: الفراغ الذي رأى التفاصيل.

الكاتب: حسين البرغوثي.

عدد الصفحات:١٢٢ صفحة.

تاريخ النشر: ٢٠٠٦.

دار النشر: دار البيرق العربي للنشر والتوزيع.