كتاب > روايات ومقالات

مشاهدٌ من خلف القضبان

إنَّ فيودور دوستويفسكي (1821-1881) هو عامود من أعمدة الأدب الروسي في القرن التاسع عشر، وهو كاتب وروائي وصحفي؛ نشر عديدًا من الأعمال الأدبية، وعلى رأسها رائعتاه (الجريمة والعقاب) و(الإخوة كرامازوف).

أمَّا (مذكرات من البيت الميت) فهو كتاب يسرد فيه دوستويفسكي ذكرياتِ سجين يُدعى ألكسندر جوريانتشكوف، ولكنَّ الحقيقة التي لم تُخفَ عن أحد هي أنَّ هذه المذكرات تحكي تجربة دوستويفسكي نفسه، فقد اعتُقِل في سجن الأشغال الشاقة في سيبيريا مدةَ أربع سنوات إبان اشتراكِه في أنشطة تعترض على النظام الحاكم في روسيا آنذاك.

ويتعمَّق دوستويفسكي -على نمط كل أعماله الأدبية- في سبر أغوار النفس البشرية، ويأخذنا في رحلة تجاه عالم السجن؛ البيت الميت، وهو بيتٌ يُدفَن فيه الآثمون من البشر، ويسرد لنا دوستويفسكي قصصَ السجناء والجرائم التي أودت بكل واحد منهم إلى هذا المكان، ثم يَصِف أحوالهم وأوضاعهم في السجن، ويومياتهم وعاداتهم، فلا يكتفي بظواهر الأمور وقشورها، بل يغوص عميقًا محاولًا اكتشاف بواطن نفوسهم وخفاياها.

ويستعرض دوستويفسكي رحلةَ السجين منذ يومه الأول، فيُطلِعنا على استيائه من غِلظة السجناء وخشونتهم وميلهم الدائم إلى التلاسن والشجار، ولكنَّه حين يَألَف السجن ويزول قلقه، يبدأ بالملاحظة الدقيقة، فيكتشف مع الوقت كثيرًا من الخير المُختبئ تحت أقنعة القسوة وكثيرًا من الأحلام القابعة خلف لامبالاةٍ ظاهرة.

ونرى دوستويفسكي في معرض دفاعِه عن حقوق السجناء مُتمرِّدًا ومطالبًا وغاضبًا؛ إذ يرى النظرةَ الدونية التي يُقابلهم بها السجَّانون ومعاملتهم الفوقية المُترفِّعة: "فالإنسان مهما يَصغُر شأنه ومهما يهبط قدره، ومهما تَهُن قيمته، يحبُّ بغريزته أن تُحترَم كرامته من حيث هو إنسان، فكل سجين يعرف حقَّ المعرفة أنَّه سجين، ويعرف حقَّ المعرفة أنَّه منبوذ ممقوت مكروه، ويعرف المسافة التي تفصل بينه وبين رؤسائه، ولكن لا القضبان ولا الأغلال تنسيه أنَّه إنسان، فلا بدَّ أن يُعامل معاملةً إنسانية إذًا.

ونراه في أحيان أخرى متألِّمًا لمرأى مريضٍ هزيل؛ يجرجر الأغلال الثقيلة في قدميه، فيقول: "فما ينبغي أن يُعاقَب مريض.. فإن قيل إنَّ السجناء أناسٌ مجرمون لا يستحقون الشفقة، قلت: فهل يجب أن تُضاعِف العذاب لمن سَبقت يدُ الله إلى تعذيبه بالمرض؟"

إنَّ في المذكرات تمردٌ من نوع آخر أيضًا؛ لا يطال تفاصيل الحياة في السجن بل يتعدَّاها إلى فلسفة العقاب، فبحسب ما خَبِر ورأى، يدَّعي دوستويفسكي أنَّ السجن ليس مكانًا للإصلاح بل للعقاب فحسب، وهو في ذلك يقول: "من الثابت المُحقَّق أنَّه لا السجون ولا المعتقلات ولا نظام الأشغال الشاقة، لا شيء من هذا كله قادر على إصلاح المجرم، إنَّ هذه العقوبات لا تزيد على أن تُنزل فيه قصاصًا، وتَقِي المجتمع من الجرائم التي قد يقارفها إبان ذلك".  

ولذلك تراه حائرًا مُفكِّرًا في أمر هؤلاء الذين فسدت نفوسهم، على حدِّ تعبيره، فكيف السبيل إلى إصلاحها وترويضها؟ 

ويضرب لنا مثلًا عن طريق ملاحظاتِه، قد يكون بسيطًا، ولكنَّه يعكس رؤيتَه الثاقبة إلى أمراض النفس وكيفية مداواتها: "كان نزلاء سجنِنا يحبُّون الحيوانات، فلو يُسمح لهم، لملأوا الثكنات بالطيور والحيوانات الداجنة، فأيُّ شغلٍ يمكن أن يرتقي بالطِّباع المُتوحشة التي يتَّصف بها السجناء، وأن يلطِّفها ويليِّنها أكثر من هذا الشاغل؟ ولكنَّ ذلك لم يكن مُباحًا، فلا النظام يأذن به ولا المكان يتسع له".

يغير دوستويفسكي في هذا الكتاب نظرتك، ويحفِّز تفكيرك لتقصِّي حقائق الأشياء، ويثير لديك كثيرًا من الأسئلة، والمهم هو أنَّه يُحرِّك مشاعرك، ويستفزُّ عواطفك، ويذكِّرك بأن تتخلى عن مسطرة الأحكام المُسبقة في رؤيتك دائمًا وحتى للمجرمين! ويُذكِّر أنَّ لكتابه هذا أثرًا سياسيًّا فعليًّا أيضًا؛ فبعد نشره عام 1861 وتضمُّنه وصفًا لأساليب التعذيب في سيبيريا، شُكِّلت لجنة خاصة لدراسة مسألة العقوبات هذه بطلب من الأمير نيكولا أورلوف، وبعد أخذ وردٍّ، أُلغيت العقوبات الرهيبة إلغاءً تامًّا عام 1863. 

معلومات الكتاب:

الكتاب: مذكرات من البيت الميّت.

الكاتب: فيودور دوستويفسكي.

ترجمة: سامي الدروبي (ترجمة عن الفرنسية).

دار النشر : دار التنوير.

تاريخ النشر: الطبعة الأولى للنسخة العربية 2014. (تاريخ نشر النص الأصلي 1861)

عدد الصفحات: 432 صفحة.