التاريخ وعلم الآثار > شخصيات من سورية

غوار الطوشة في ذاكرة السوريين

صوت لا تخطئه الأذن، يصدح في أروقة أوتيل "صح النوم" لصاحبته "فطّوم حيص بيص"

بلكنة دِمشقية محبّبة تعربش على أيامنا لتُضحِكنا وتُبكينا، يرافقه صوت القبقاب الّذي ينتعله غوّار الطوشة ، يمشي في ذاكرتنا بخفّة دمه المعهودة مذكّراً إيّانا بشخصية دخلت إلى منزل كل سوريّ .

طربوش أحمر مُغبر، صاحبهُ رجل نحيل، متوسّط القامة، بِنظارة طبّية سميكة(كعب الفنجان) تطلّ من خلفها عينان كبيرتان تغشاهما دمعة، تحتار في أمرها! فصاحبها شقي، مشاكس، لكّن طيّب القلب، وجميل .

هذا الرّجل ليس إلّا غوّار الطوشة صاحب المقالب الأشهر في تاريخ الدراما السوريّة.

حين تحصل مشكلة في جزر "الهونولولو"أو "الواق واق" فغوّار هو المسؤول عنها، المشاكس، "المشكلجي" المعروف على مستوى حارة"كل مين أيدو ألو"، الطّيب القلب، ذوالصوت الشجي في مواويل سجن "أبو كلبشا"، والمشتعل ولهاً بِمحبوبته الجميلة " فطّوم حيص بيص" منادياً عليها لتخبّئه بِــ " بيت المونة" فيرتدّ الصدى، مُجيباً أيّاه " يضرب الحب شو بيذل " !

"غوّاااار....تعال خود شنتاية السيد حسني البورظان (حسّونتي) وعطيه أوضة مسمسة(مشمسة) ليلاً نهاراً فكط .. ولك وينك ! غوّووووارر ! "

يأتي صوت القبقاب من بعيد..مُبشّراً بِبسمة سترتسم على وجوهنا بعد قليل، سرعان ما تتحوّل إلى ضحكة تعلو شيئاً فشيئاً لتصبح مجلجِلة تنطلق من بيوت دِمشق بأكملها..لا بل من بيت كل مواطن عربي .

من هو غوّار الطوشة ؟! شاغل الدنيا ومالئ النّاس في أزمنة الأبيض والأسود وزمن نشوء التلفزيون !

حين دخل الممثل القدير "دريد لحّام" إلى عالم التمثيل وهو المدّرس لمادة العلوم، كان ذلك في العام 1960

في تلك الأثناء كان هناك رجل بسيط يعمل في مبنى الإذاعة والتلفزيون، اسمه الأوّل : غوّار

فما كان من الممثل الراحل نِهاد قلعي(حسني البورظان) إلّا أن أطلق عليه اسم: غــوّار مشعل الطّوشة، وقام صديقه دُريد لحّام بحياكة الشخصية ببراعة، ونسج لهذا "الكاراكتر" خطوط مُميّزة جعلته قريباً من جميع النّاس .

عمِل دريد لحّام جاهداً على الدخول إلى كل بيت عربي بمقالب شخصية غوّار الّتي تفوقت على الممثل نفسه "دريد لحّام، فاقترن اسمه بِها، ونودي بلقب "غوّار" حتى بعد تركه لتمثيل تلك الشّخصية ، لا بل أصبحت حلوى "القباقيب الدمشقية المعروفة" تُسمّى بِ "قباقيب غوّار !

غوّار الطوشة هو المواطن السوري المنهمك في معترك الحياة والشقاء اليومي، يخوض حروب من نوع خاص

كانت أسلحته فيها "المقالب" مغلّفاً إيّاها بخفّة دمه، ضحكة ساخرة من كل شيء تنطلق غير أبهة بما حولها، كأنّها تمدّ لسانها في وجه القدر الّذي يعاند غوّار دوماً فلا هو ينال لقمة عيشه ولا هو يظفر بمحبوبة القلب .

أطلّ غوّار على الشاشة الصغير عام 1960 في مسلسل (حمّام الهنا) المؤلّف من ثلاثة عشر حلقة، بطولة : دريد لحّام، نِهاد قلعي، رفيق سبيعي، ياسين بقّوش، نجاح حفيظ .

كانت تلك البداية الّتي عرَّفت الناس على صاحب القبقاب المضحك، ليظهر مرّة أخرى في مسلسل بجزئيين أخذ من الشهرة ما جعل طرق دمشق شبه خاليه في وقت عرضه ، المسلسل هو (صحّ النوم) والّذي تدور إحداثه في "حارة كل مين أيدو ألو".

أبطال المسلسل هم الفريق الذي لا يفترق "غوّار، حسني البورظان، فطّوم حيص بيص، ياسينو، أبو عنتر، أبو كلبشا" .

الجزء الأول من المسلسل مؤلّف من ثلاثة عشر حلقة ينتهي المشهد الأخير بِغوّار وراء القضبان، يغنّي لمعلمته الّمرأة الوحيدة في حارة كل مين أيدو ألو..بصوت شجي يغنّي لها "فطّوم ،فطّوم،فطّومة..خبيني ببيت المونة"

أما الجزء الثاني فهو من خمس حلقات تتناول واقع يومي في إطار كوميدي ساخر بَرع به كُل ممثّل بامتياز وإن طغى حضور غوّار في كل حلقة .

يستمر غوّار في مقالبه لكن في سلسلة جديدة بعنوان"مقالب غوّار"، المسلسل الّذي قدّم في نسختين . نسخة للتفزيون السوريّ،و أخرى لتلفزيون لبنان . يشارك دريد البطولة رفيق سبيعي .

غوّار تعدّى حدود الشاشة الصغيرة، قافزاً إلى السينما ليقدم نفسه في عدّة أفلام مِنها :

فندق الأحلام، امبراطورية غوّار، صحّ النوم(فلم)، أنا عنتر، غوّار جيمس بوند.....

يتوقف إلى حين من الزمن بعد عشرات المسلسلات، ليأتي مسلسل" عودة غوّار" معلناً عودة الشخصية بإطار جديد مع باقة من اصدقاء غوّار"ياسينو" ياسين بقّوش، "أبوعنتر" ناجي جبر .

تابعت شخصية غوّار وإن اختلفت البيئة الّتي احتضنتها إلى مكان آخر وهو خشبة المسرح

غوّار ارتدى نصوص الكاتب السوريّ محمّد الماغوط كاتب الجرح العربيّ كأفضل ما يكون، لتأتي النتيجة أعمال مسرحية تُعد من أجمل ما قُدّم مسرحياً في الوطن العربيّ .

كاسك يا وطن(1979) حقّقت نجاجاً باهراً، تناولت واقعاً إجتماعيّاً سياسياً، عالجته شخصية غوّار(نفس المظهر الغوّاري وإن اختلفت جوانب الشخصية ) ليصبح غوّار هو "أبو أحلام" الناقد بسخرية مريرة قاسية لواقعه المعاش في إطار كوميدي، لينهي المسرحيّة مخاطباً أبيه المتوفّى بجملة : مو ناقصنا إلّا شويّة كرامة يا بيي !

مسرحية غربة (1976)

مسرحية ضيعة تشرين(1973) .

غوّار الطوشة اللّذي عُرِف واشتهر منذ عام 1960 يحلو للبعض أن يُطلق عليه لقب "تشارلي شابلن العرب" رغم اختلاف الشخصيتين و اختلاف رسالة كلّ منهما .

لم يكن غوّار مجرد "كاراكتر مضحك"، ففي داخل كل مِنّا "غوّار" صغير بشارب ونظارة وطربوش وسروال فضفاض.

في كل مِنّا كائن "طوشة" يمشي مُسرعاً بقبقابه، ضاجّاً بالحياة، يريد أن يظفر بقلب"فطّومته"، يسخر بالمثقفين وجرائدهم متمثّلةً بالـ"بورظان"، يكيل المقالب بمن حوله، لديه الصديق القبضاي يقف في ظهره"أبو عنتر" والصديق البسيط الّذي تشاء الأقدار أن تقع المقالب في رأسه على الدّوام .

غوّار الطوشة ..شخصية حُبكت من واقع مُعاش في الوطن العربي منذ أزمنة الأبيض والأسود وحتّى اليوم الراهن .

تحية لغوّار الحقيقي و المجهول في مبنى الإذاعة والتلفزيون أينما وجد .

تحية لمن نفخ الروح في شخصية غوّار مشعل الطوشة ولمن أحياها لعقود ..

المصادر :

هنا

هنا