المعلوماتية > الحوسبة الكمومية

تطبيق الحوسبة الكمومية في تقنيات تعلم الآلة، والبدء بشبكة البيرسيبترون Perceptron

يُعدّ التشابك الكمومي -الذي أشار إليه آينشتاين بعبارة «حدث بعيد شديد الغرابة»- أحد الأنظمة الكمومية المتعددة الممكنة التي يكتشفها الفيزيائيون بهدف الوصول إلى تطبيقات محتملة ضمن مجال واسع من الاختصاصات.

لذلك؛ طور فريق من الفيزيائيين شبكات عصبونية صنعية لتمثيل الأنظمة الكمومية، وقد تساعد على حل المشكلات الكمومية عن طريق تقديم تمثيل أكثر دقة عن عالم ميكانيكا الكم.

كان التاريخ يشير إلى العام 1958م -أي في الأيام الأولى للثورة الحاسوبية- عندما نظم مكتب البحوث البحرية الأمريكي مؤتمرًا صحفيًّا لكشف الستار عن جهاز اخترعه عالم نفس يُدعَى "فرانك روزنبلات" في مختبر كورنيل للطيران الذي أصبح فيما بعد معروفًا باسم شركة Calspan.

وقد أطلق روزنبلات على جهازه اسم (بيرسيبترون Perceptron)؛ أي المُستقبِل أو المُدرِك البسيط أو المُستشعِر البسيط؛ إذ ذكرت صحيفة نيويورك تايمز في ذلك أنه كان "نسخة جنينية للحاسوب الإلكتروني الذي يتوقع له سلاح البحرية أن يصبح قادرًا على السير والتحدث والرؤية والكتابة واستنساخ نفسه وإدراك وجوده".

وتبيَّن فيما بعد أن تلك الادّعاءات مبالغٌ فيها بعض الشيء، غيرَ أنّ ذلك الجهاز أشعل شرارة الانطلاق أمام مجالٍ بحثي لا يزال يتمتع بإمكانيات هائلة حتى يومنا هذا.

أما البيرسيبترون فهي شبكة عصبونية صنعية وحيدة الطبقة؛ أي مكوَّنة من طبقة واحدة، ثم إنّ شبكات التعلم العميق (deep-learning) التي أثارت قدرًا كبيرًا من الاهتمام في السنوات الأخيرة إنما هي تنحدر منها مباشرة.

وعلى الرغم من أنّ جهاز روزنبلات لم يتمكن يومًا من تحقيق إمكانياته المُبالغ فيها؛ ولكن هناك أمل كبير في الأجهزة والتقنيات المُنحدِرة منه التي قد تتمكن من تحقيق هذه الإمكانيات.

ما الشبكة العصبونية الصنعية (Artificial Neural Networks)؟

هي تقنية حسابية مصممة لمحاكاة الطريقة التي يؤدي بها الدماغ البشري مَهمة معينة، وذلك عن طريق معالجة ضخمة موزّعة على التوازي ومكونة من وحدات معالجة بسيطة هي عناصر حسابية تسمى عصبونات (Neurons) أو عقد (Nodes) لها خاصية عصبية، ولكل عصبون دخل وخرج ودالّة تفعيل.

واليوم هناك ثورة أخرى تشهدها معالجة المعلومات لا تزال في مراحلها الأولى، وهي الحوسبة الكمومية (Quantum Computing).

ويثير هذا تساؤلًا مثيرًا للاهتمام؛ هل يمكن تنجيز شبكة بيرسيبترون على حاسوب كمومي؟ وإن أمكن ذلك، فما مدى القدرات التي يمكنه أن يبلغها عندئذٍ؟

ما الحوسبة الكمومية؟

هي طريقة لتصميم المعالجات الدقيقة بالاعتماد على قوانين ميكانيكا الكم، ولفهم القفزة التي ستتحقق بتطوير الحواسيب الكمومية يتعيّن إلقاء نظرة إلى كيفية عمل الحاسوب التقليدي.

يعتمد الحاسوب التقليدي في تعامله مع المعلومات على عدّها نبضات كهربائية تُمثل إحدى الحالتين؛ 0 أو 1، وهذا ما يتّخذه البت (bit) العادي تمامًا.

وللتوضيح خذ مثال مصباح إضاءة؛ فهو إما مضاء (1) وإما غير مضاء (0)، ولا توجد حالة ثالثة يمكن أن يكون عليها المصباح.

يخزن الحاسوب التقليدي المعلومات ويعالجها بالاعتماد على البت العادي، ومع ازدياد الحاجة إلى قدرات أكبر لتخزين المعلومات ومعالجتها أظهرت الحواسيب التقليدية -متضمنةً الحواسيب العملاقة (super computers)- محدوديةَ إمكاناتها عندما يرتبط الأمر بمسائل معقدة تتطلب معالجة ضخمة ومعقدة للمعلومات.

لذا؛ انبثقت منذ ثمانينيات القرن الماضي فكرة تطوير حواسيب تستخدم منطقًا مختلفًا يخضع لقوانين ميكانيكا الكم التي تنطبق على الأجسام المتناهية الصغر (النانوية).

وحسب هذه القوانين، يمكن لخانة تخزين المعلومات أن تتخذ ثلاث قيم هي (صفر) أو (واحد) أو كلا القيمتين في الوقت نفسه، وتسمى البت الكمومي أو "الكيوبت"؛ أي لو كان المصباح متناهٍ في الصغر وتنطبق عليه قوانين ميكانيكا الكم فسيكون إما مضاءً وإما غير مضاء وإما كلتا الحالتين معًا.

وهذه الحالة الثالثة تسمى التراكب الكمومي، وهي إحدى خصائص ميكانيكا الكم التي مثّلها العالم شرودنغر بتجربة القط، وقد أثبت فيها أن القط "الكمومي" يمكن أن يكون حيًّا وميتًا في الوقت نفسه.

إنّ هذا التصرف الغريب للمادة عندما تكون متناهيةَ الصغر هو الذي سيعطي الحوسبة الكمومية في المستقبل قدرتها الخارقة على تنفيذ العمليات الحسابية ومعالجة المعلومات الضخمة مقارنةً بالحواسيب التقليدية.

ويمكننا اليوم الحصول على إجابة من نوعٍ ما بفضل العمل الذي أنجزه فرانشيسكو تاتشينو وزملاؤه في جامعة بافيتا في إيطاليا؛ فقد بنوا أول شبكة بيرسيبترون تُنفّذ على حاسوب كمومي، ثم طبقوها على بعض المَهمات البسيطة في معالجة الصور.

ولنفترض أنّ شبكة البيرسيبترون في أبسط أشكالها؛ عندها إذا طُبِّقت عمليةُ الضرب بشعاع الوزن (weight vector) على شعاع من الأرقام هو شعاع الدخل (Input vector)، فسيتولّد خرج مكون من رقم واحد. وإذا تجاوز هذا الرقم عتبةً معينة تكون قيمة الخرج عندئذ 1، أما إذا كان أقل من تلك العتبة فتكون قيمة الخرج عندئذ 0.

ولهذا الأمر عددٌ من التطبيقات المفيدة؛ تخيل مثلًا مصفوفة من النقاط اللونية (Pixels) تولِّد مجموعة من مستويات الكثافة الضوئية -أي مستوى كثافة ضوئية لكل بيكسل- عند تصوير نمط معين، وعند تقديم هذه المجموعة من الأرقام إلى شبكة بيرسبيترون معينة فسيولّد خرجًا قيمته 1 أو 0.

والهدف هو أن يُضبَط كل من شعاع الأوزان والعتبة؛ إذ يأخذ الخرج القيمة 1 عندما يرى قطة مثلًا والقيمة 0 في كافة الحالات الأخرى.

إذًا؛ كرّر تاتشينو وزملاؤه العمل السابق الذي أدّاه روزنبلات على حاسوب كمومي.

أما التكنولوجيا التي مكَّنتهم من تحقيق ذلك فهي المعالج الكمومي الفائق الناقلية من شركة (IBM)، وهذا الحاسوب الكمومي قادر على معالجة 5 كيوبتات، وهو قابل للبرمجة عن بعد عبر الإنترنت من قبل أي شخص يمكنه إنشاء خوارزميات كمومية.

يُمكنك الاطلاع على مقال خاص بالبرمجة الكمومية هنا .

قد ابتكر تاتشينو وزملاؤه خوارزمية يمكن تغذيتها بدخل بسيط مثل شعاع يحمل معلومات صورة؛ إذ تجمع بينه وبين شعاع الأوزان الكمومي لتولِّد بعدها خرجًا يأخذ إحدى القيمتين 0 أو 1.

وتتمثل الميزة الكبرى للحوسبة الكمومية في أنها تتيح زيادة هائلة في عدد الأبعاد (حجم الدخل المُمكِن معالجته)؛ فإذا كان بإمكان شبكة البيرسيبترون العادية معالجة دخل حجمه N بُعد، فإن الشبكة الكمومية يمكنها معالجة دخل بحجم 2N بُعد.

ويقدم تاتشينو وزملاؤه برهانًا عمليًّا على هذا الأمر عن طريق المعالج Q-5 من (IBM). ونظرًا إلى أن عدد الكيوبتات صغير، فإن المعالج قادر على معالجة الحالة N=2 التي تكافئ معالج صورة بالأبيض والأسود بُعدها 2×2.

ثم يتساءل الباحثون: هل تحتوي هذه الصورة على صفوف أفقية أم عمودية؟ أم إنها تحتوي على نمط رقعة الشطرنج؟

وقد تبيَّن لهم أنّ بإمكان تلك الشبكة الكمومية تصنيف الأنماط بسهولة في هذه الصور البسيطة؛ إذ يقول تاتشينو وزملاؤه: "لقد أثبتنا أن هذا النموذج الكمومي من شبكة البيرسيبترون يمكن استخدامه بمثابة أداة أولية غير خطية لتصنيف الأنماط البسيطة".

وهم يستطردون عملهم بإظهار كيفية استخدامه في أنماط أكثر تعقيدًا، وإن كان ذلك بطريقة مقيَّدة بعدد الكيوبتات التي يمكن للمعالج أن يعالجها.

إنه عمل مثير للاهتمام ويَعِدُ بإمكانيات كبيرة. وعلى الرغم من أن روزنبلات وآخرين سرعان ما اكتشفوا أن البيرسيبترون الواحد لا يمكنه سوى تصنيف صور بسيطة للغاية مثل الخطوط المستقيمة؛ لكن وجد علماء آخرون أنّ تجميع عدة شبكات بيرسيبترون (المستقبلات) يعدُ بإمكانيات أكبر بكثير.

وقد أدى إحراز التقدم وتحقيق التطور في جوانب أخرى متنوعة إلى ظهور آلات يمكنها التعرف إلى الأشياء والوجوه بدقة تضاهي القدرات البشرية، ويمكنها أن تتغلب على أمهر اللاعبين البشر في لعبة الشطرنج.

ولا تزال شبكة البيرسيبترون الكمومية التي أنجزها تاتشينو وزملاؤه في مرحلة مبكرة من التطور أيضًا، وستتمحور الأهداف المستقبلية حول ترميز التمثيل المكافئ للصور الرمادية (gray scal) ودمج شبكات البيرسيبترون الكمومية ضمن شبكات متعددة الطبقات.

ويمتلك عمل هذه المجموعة ذلك النوع من الإمكانيات؛ إذ يقول أفراد المجموعة: "إن الإجراء الذي نقترحه عمومي بالكامل، ويمكن تنجيزه وتشغيله على أية منصة عمل قادرة على تنفيذ العمليات الحسابية الكمومية العامة".

وبطبيعة الحال إنّ العامل المُقيّد هو توفر معالجات كمومية أكثر قوة وقادرة على معالجة عدد أكبر من الكيوبتات، ولكن؛ يتفق معظم باحثي ميكانيكا الكم على أنّ هذا النوع من القدرات بات وشيكًا.

وفي الواقع؛ منذ أن أنجز تاتشينو وزملاؤه عملهم، أقدمت (IBM) بعد ذلك على إتاحة أحد معالجاتها الكمومية بقدرة 16 كيوبت للاستخدام عبر الإنترنت؛ أي إنها مسألة وقت فقط قبل أن تصبح شبكات البيرسيبترون الكمومية أكثر قوة بكثير مما هي عليه اليوم.

المصادر:

هنا

هنا