المعلوماتية > المعلوماتية الحيوية

عقاقير دوائية مبرمجة!

عرف العلماء منذ فترة طويلة أنّ الخلايا الحية تستخدم نظامًا معقدًا من الإشارات لإدراك محيطها ونقل المعلومات داخليًّا فيما بينها وبين جيرانها.

وبعض العوامل التي تدخل في هذا النظام هي جزيئات الإشارة المحددة وتركيزها وطريقة تغيرها مع مرور الوقت.

على الرغم من بساطة نظام عمل الخلايا الحية من حيث المبدأ؛ لكنّه نظام قوي للغاية ومعقد، وهذا هو السبب وراء تعقيد فك تشفيره، وتتمثل إحدى المشكلات في صعوبة تحديد جزيئات الإشارة المنتقلة بين الخلايا وقياس طريقة تغير تركيزها.

وعلى سبيل المثال، عندما يضر إشعاع غاما بخلايا الثدييات فإنه يؤدي إلى إطلاق بروتين يسمى p53 النووي الذي يُطلَق بهيئة نبضات سريعة متعددة، وهي إشارة تؤدي إلى توقف الخلية مؤقتًا للتحقق من وجود أية أذية عن طريق عملية تعرف بـ "توقيف الدورة الخلوية".

ومن جهة أخرى، تولّد الأشعة فوق البنفسجية نبضة واحدة أطول من النبضات المتولدة في حالة التعرض لإشعاع غاما؛ مما يحرض موت الخلية على الفور. ولكن؛ يمكن أن تكون الكمية الإجمالية من p53 الذي أُصدِر نفسها في كلتا الحالتين.

إنّ المجسات الجزيئية الحديثة لا تستطيع تحديد هذا الاختلاف، فهي تشبه مجس استماع إلى برنامج إذاعي باستخدام جهاز استقبال لشيفرة مورس Morse code؛ أي يمكننا معرفة ما إذا كان جهاز الإرسال يعمل أم لا، ولكن لا يمكن معرفة ما يبثه. لذا؛ يحتاج البيولوجيون بشدة إلى طريقة أفضل لقياس الإشارات الجزيئية.

وقد طور جاكسون أوبراين وأرفيند مورُغان من جامعة شيكاغو طريقةً لقياس التغيرات في الإشارات الجزيئية باستخدام شكل متطور من الحوسبة الجزيئية، ويقولان إنّ نهجهم يضع لبنات الطريقة الجديدة لدراسة إشارات الخلية واستغلالها: "يُرسي عملنا الأساس لتمييز النمط الزمني عن طريق الحساب الجزيئي التناظري".

إن التقنية الناشئة من أعمال أوبرين ومورغان هي شكل من أشكال حوسبة الحمض النووي التي يبني عليها علماء البيولوجيا الصنعية آمالًا كبيرة. وتستند هذه الحوسبة إلى الطريقة التي يمكن أن تحل بها قطعة واحدة من الحمض النووي الأحادي السلسلة مكانَ قطعة أخرى من الحمض النووي المزدوج السلسلة، وهي تقنية يمكن التحكم بها بدقة عن طريق استخدام أدوات متطورة.

ويمكن لهذه الأدوات التحكم بدقة بمعدل العملية السابقة وانعكاسها (تبديل قطعة الحمض النووي الأحادي السلسلة مكان أخرى من الحمض النووي المزدوج السلسلة أو العكس)، ويخلق هذا سلوكًا شبيهًا بعمل المفتاح "Switch"؛ أي إما أن يعمل التفاعل وإما أن يتوقف. علمًا أن الجمع بين عدة مفاتيح مختلفة يجعل العمليات المنطقية ممكنة، وهذا بدوره يمهّد الطريق لأنواع المَهمات الحسابية جميعها.

وقد أظهر الباحثون كيف يمكن لهذه العملية أن تؤدي حسابات معقدة وتحاكي سلوك شبكات التعلم العميق.

وتتمثل مساهمة أوبرين ومورغان في تحديد دارات الـ DNA التي يمكنها الإحساس بوجود إشارات محددة والطريقة التي تتغير بها مع مرور الوقت.

وتختلف الإشارات النابضة بعدة طرائق؛ إذ يمكن أن يتغير تواترها (الفترة الفاصلة بين نبضتين)، أو يمكن أن يختلف طول كل نبضة؛ فالنبضة ذات التواتر نفسه يمكن أن تكون قصيرة أو طويلة ويُعرَف هذا باسم فترة العمل (جزء الوقت الذي يكون فيه النبض قيد التشغيل)، كذلك يمكن أن يتغير عدد النبضات بالطبع.

ومن الجدير بالذكر أنه يمكن لمجموع الإشارات أن يكون نفسه حتى عندما تختلف فترة العمل وعدد النبضات على نحو كبير.

يمتاز البحث الجديد بتصميم الآلية الجزيئية التي يمكنها قياس كل من هذه الميزات على نحو فردي ومستقل.

وتبدو النتائج واعدة؛ إذ حاكى الباحثون سلوك داراتهم ويقولون إنها تعمل جيدًا: "نحن نظهر مبادئ التصميم الخاصة بنا باستخدام شبكات تفاعل كيميائية مجردة مع محاكاة صريحة لتفاعلات تشابك الحمض النووي".

وهناك عدة تحديات بالطبع، فعلى الرغم من أنّ هذه الدارات يمكن أن تبحث عن تغيرات محددة سلفًا في الإشارات الجزيئية؛ لكن قد تفيد المرونة وعدم الحاجة إلى التحديد المسبق للتغييرات على نحو أكبر، وكما يقول الباحثان: "سيكون من المثير للاهتمام تطوير الدارات الجزيئية التي يمكن أن تتعرف السمات الزمنية ذات الصلة ديناميكيًّا كما هو الحال في أساليب التعلم الآلي".

أما التحدي الآخر فيكمن في قياس التغيرات في سعة الإشارة، وهو ميزة أخرى مهمة لا تتوافر حاليًّا.

وبعد ذلك، تكون المرحلة التالية هي بناء هذه الدارة ووضعها موضع التنفيذ، وبالطبع يمثل هذا تحديًا مستمرًّا لعلماء البيولوجيا الصنعية عمومًا.

ويتوقع أوبرين ومورغان أنّ حاسوبهما الجزيئي يمكن أن يمتلك تطبيقات دراماتيكية؛ إذ يمكن تطوير حبة دواء لا تقدم العلاج إلا عندما تتلقى نمطًا معينًا من الإشارات، فعلى سبيل المثال؛ تؤدي الاستجابة الالتهابية للخلية واستجابتها المناعية التكيفية إلى ظهور أنماط إشارة مختلفة لعامل النسخ NFkB، ومن ثم يمكن برمجة الحبة للتعرف إلى أحد هذه الأنماط وإطلاق حمولتها من الدواء وفقًا لذلك.

قد يكون هذا بعيدًا بعض الشيء الآن، لكنّ منطق ردود فعل الحمض النووي يمثّل تقنية مثيرة ذات إمكانات مستقبلية هائلة.

المصادر:

هنا