الرياضيات > الرياضيات

الرياضيات لأجل ديمقراطية أكثر عدلًا وشفافيةً

تضمن الديمقراطية تمثيل أفراد الدولة جميعًا تمثيلًا متساويًا لتحقيق احتياجاتهم ومتطلباتهم المدنية والسياسية، وذلك بانتخاب ممثلين سياسيين عنهم لإيصال أصواتهم والحفاظ على مصالحهم في أثناء اتخاذ القرارات في هيئة حكم تشريعية (برلمان). كذا هو الحال عند تمثيل شعوب دول متعددة تحت سقف برلمان واحد، كبرلمان الاتحاد الأوروبي، الذي يضم 751 مقعدًا برلمانيًّا يملؤه ممثلون سياسيون من 28 دولة عضو في الاتحاد الأوروبي. غير أن حالة تمثيل شعوب دول متعددة تختلف عن حالة تمثيل شعب دولة واحدة؛ ذلك لاحتوائها على تحديات أكثر تعقيدًا عندما يأتي الأمر إلى كيفية توزيع المقاعد البرلمانية على الدول الأعضاء، وكيفية تغيير هذا التوزيع بانضمام دولة إلى الاتحاد أو انسحاب دولة منه.

انطلاقًا من مبدأ التمثيل المتساوي للشعوب، الذي تقوم عليه الديمقراطية، يجب أن يتناسب عدد المقاعد البرلمانية المخصصة لدولة ما طردًا مع تعدادها السكاني. لكن التفاوت الكبير في التعداد السكاني بين دول الاتحاد الأوروبي يخلق مشكلة في التمثيل البرلماني؛ إذ إن تطبيق هذا التناسب بدقة حسابية سيمكِّن الدول ذات التعداد السكاني المرتفع كألمانيا (83 مليون نسمة) من الهيمنة على مقاعد البرلمان، في حين يتلاشى صوت الدول ذات التعداد السكاني المنخفض مثل مالطا (460 ألف نسمة). لذا اتفق أعضاء الاتحاد على اعتماد مبدأ التناسب التنازلي (Degressive Proportionality) الذي يسمح للدول ذات التعداد السكاني المنخفض بالحصول على عدد أكبر بقليل من المقاعد البرلمانية من ذلك الذي كانت لتحصل عليه دون اعتماد التناسب التنازلي؛ ما يعطي هذه الدول أصواتًا أعلى في البرلمان الأوروبي على حساب الدول ذات التعداد السكاني المرتفع. مع ذلك؛ ما زال توزيع المقاعد البرلمانية يحدث بالمقايضة والمفاوضة السياسية دون اتباع مبدأ أو منهجية واضحة وقابلة للتنفيذ عند حصول أي تغيير في الاتحاد. لذا؛ كان من الضروري التوصل إلى صيغة رياضياتية تضمن العدل والشفافية في توزيع المقاعد البرلمانية على الدول الأعضاء في ظل التغيرات المستمرة التي تطرأ على الاتحاد. ففي عام 2010، أُلّفت لجنة من الرياضيين من جامعة كامبريدج لإيجاد حل رياضي للمشكلة.

الشروط الرياضية: مدرجة في معاهدة لشبونة (Lisbon Treaty) عام 2009.

الشروط غير الرياضية:

تسوية كامبريدج (The Cambridge Compromise)

تسمَّى بطريقة "أساس + تناسب" أيضًا.

تعطى كل دولة بدايةً- بغض النظر عن حجمها- 5 مقاعد برلمانية (العدد الأساس).

يضاف للعدد الأساس العدد (p/d)؛ إذ إن p عدد السكان، وd عدد ثابت لكل الدول.

إذا تخطى المجموع "5 +(p/d)" لدولة ما 96 مقعدًا، يلغى الحساب وتعطى الدولة 96 مقعدًا.

لكن؛ لتسوية كامبريدج مشكلتان:

لن يكون العدد p/d صحيحًا لكل دولة، ولا يمكن إعطاء دولة ما 63.3 مقعدًا على سبيل المثال؛ لذلك اتفق الرياضيون على اعتماد طريقة التقريب للأعلى؛ فيُقرَّب العدد 63.3 إلى 64؛ ما يعطي الدول ذات التعداد السكاني المنخفض فائدة أكبر ويصب في مبدأ التناسب التنازلي؛ كما يحقق شرط إعطاء كل دولة 6 مقاعد على الأقل؛ إذ إن تقريب العدد p/d للأعلى سيعطي 1 على الأقل.

لا ضمان بأن العدد الكلي لمقاعد البرلمان سيصل إلى 751 مقعدًا بالضبط؛ وهنا يأتي دور المقسوم عليه d، إذ يمكننا التحكم والتلاعب بهذا العدد إلى أن يعطينا المجموع "5 +(p/d)" الناتج 751.

مثال:

فلنفترض الدولة A ذات تعداد سكاني 3500، الدولة B ذات تعداد سكاني 3501، والدولة C ذات تعداد سكاني 360؛ وإذا اخترنا d = 10، فإن توزيع المقاعد البرلمانية سيكون كالآتي:

الدولة A:   ويصبح 355 بعد التقريب للأعلى.

الدولة B:   ويصبح 355 بعد التقريب للأعلى.

الدولة C:  ويصبح 41 بعد التقريب للأعلى.

الآن أصبح المجموع 751 مقعدًا.

التسوية الأسية (The Power Compromise)

لوحظ أن تطبيق تسوية كامبريدج يؤدي إلى خسارة بعض الدول مقاعد برلمانية؛ إذ تُفقد علاقة التناسب الخطي عندما يكون عدد السكان p كبيرًا جدًّا. ما دفع اللجنة إلى اقتراح التسوية الأسية المماثلة لتسوية كامبريدج، لكن بدلًا من جمع العدد الأساس 5 مع النسبة الخطية p/d، نجمعه مع النسبة الأسية pq/d؛ إذ نختار قيمة القوة q أصغر من 1 والمقسوم عليه d، بحيث لا تحصل أية دولة على أكثر من 96 مقعدًا، ويكون المجموع الكلي لعدد مقاعد البرلمان 751.

مشكلة التسوية الأسية أنها صعبة الشرح للعامة، كما أنها صعبة التفسير مقارنة مع التناسب الخطي في تسوية كامبريدج.

أي التسويتين أفضل؟

وجدت اللجنة بعد تجربة العديد من الدوال الخطية وغير الخطية، أن الدالة الخطية (المتمثلة في تسوية كامبريدج) أكثر كفاءةً في تجسيد التناسب الطردي بين التعداد السكاني وعدد المقاعد. مع ذلك؛ فإن شرطي الحد الأعلى لعدد المقاعد المسموحة لكل دولة والعدد الكلي لمقاعد البرلمان، يمنعان استمرارية الدالة الخطية من أجل قيم كبيرة لـ p. من جهة أخرى؛ تستطيع الدوال غير الخطية (الأسية والتربيعية) أن تستوفي الشرطين السابقين على نحو أفضل، لكنها تفتقر إلى الوضوح والسهولة في الفهم.

بما أن اللجنة مكلفة بالإتيان برؤية جديدة للتوزيع البرلماني، ومستقلة عن سياسات الأمس، فتفوقت تسوية كامبريدج لبساطتها ووضوحها وتحقيقها شرط التناسب التنازلي؛ وقدمتها اللجنة اقتراحًا رسميًّا إلى جانب الاقتراحات الأخرى إلى لجنة الشؤون الدستورية الأوروبية (AFCO) عام 2011.

ردود أفعال لجنة الشؤون الدستورية الأوروبية (AFCO) على اقتراحات لجنة الرياضيين

تنوعت ردود الأفعال المبدئية لأعضاء اللجنة بين فضول يوشك على الدعم ورغبة بالتوضيح وسوء فهم ومعارضة تامة. أبدى بعض الأعضاء عدم رضا عن التغيير الذي سيطرأ على توزيع مقاعد الدول ذات التعداد السكاني بين 7 - 11 مليونًا في حال استُخدمت معادلة كامبريدج، وزعموا أن تسوية كامبريدج غير عادلة بحق الدول ذات التعداد السكاني المرتفع. وبذلك لم يحظَ الحل الرياضي عمومًا وتسوية كامبريدج خصوصًا بالدعم والترحيب من قبل أعضاء البرلمان؛ إذ لجؤوا مجددًا إلى المفاوضات السياسية لتوزيع المقاعد عقب الانتخابات البرلمانية عام 2014، منتهكين مبدأ التناسب التنازلي.

وفي عام 2017، أُعطي الرياضيون فرصة أخرى لمناقشة تسوية كامبريدج وثلاث طرائق رياضية أخرى في ورشة العمل التي أقامتها الـ AFCO في بروكسل؛ وذلك لتحديد مصير الـ 73 مقعدًا فارغًا إثر خروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي. مرة أخرى؛ تجاهل السياسيون المقترحات والصيغ الرياضية، ليلجؤوا إلى المداولات السياسية ويعلنوا التوزيع الجديد لمقاعد البرلمان عام 2018، ويعتمدوا برلمانًا مؤلفًا من 705 مقاعد للفترة التشريعية بين 2019 - 2024 دون تعليل اختيار هذا العدد.

أبدى البروفيسور (جيفري غريميت Geoffrey Grimmett)- رئيس لجنة الرياضيين الموكلة باقتراح طريقة رياضية لتوزيع المقاعد البرلمانية- وزميله (فريدريك بوكلشيم Friedrich Pukelsheim) خيبة أملهما من التوزيع البرلماني الذي لا يعتمد على أية صيغة ممنهجة؛ ذلك في ورقة نشراها معًا، تشرح الطرائق الرياضية المقترحة، إلى جانب ما جرى في البرلمان للوصول إلى النتيجة الحالية. وقد أكدا أن التوزيع الحالي لا يحقق سوى شرط التناسب التنازلي؛ علمًا أنه كان على لجنة الـ AFCO التوصل إلى طريقة موضوعية وعادلة ومتينة وشفافة. ويؤكد (غريميت) و(بوكلشيم) أنه حان الوقت للديمقراطية الأوروبية للانتقال من العصور المظلمة إلى عصر النهضة.  

المصادر:

1- هنا

2- هنا

3- هنا

4- هنا

5- هنا

6- هنا